في أول شهادة من رحّالة صيني وطئت قدماه جزيرة سنغافورة مطلع القرن الخامس عشر، أطلق عليها «جزيرة الأسود»، لكنه أخطأ في اختيار الحيوان، لأن هذه الجزيرة لم تعرف الأسود في تاريخها، بل كانت تسرح فيها النمور بأعداد كبيرة حتى أواخر القرن التاسع عشر، وتهدد حياة الفلاحين الذين كانوا تائهين في غاباتها، وتفترس كثيرين منهم.
لكن التاريخ طوى صفحة ذلك المشهد البدائي، حيث أصبحت سنغافورة منذ سنوات واحدة من أكثر الدول ازدهاراً وتطوراً ونظافةً وأماناً في العالم، والأولى التي قضت على اثنتين من أبشع آفات الإنسانية: الفقر والبطالة. في زيارتي الأخيرة إلى تلك الجزيرة أمضيت ستة أيام، كنت أطلب خلالها من كل الأشخاص الذين رافقوني، أن يأخذوني إلى أفقر حي فيها، حيث رأيت بأم العين هذه المعجزة: لا بؤس هنا، ولا أكواخ مكتظة بالسكان، بل توجد خدمات صحية عصرية، ونظام تعليمي متطور، وفرص عمل في متناول الجميع، وهجرة منظمة تتقاسم فوائدها الدولة والأجانب الوافدون إليها للعمل.
أظهرت سنغافورة، خلافاً لكل النظريات الاجتماعية والاقتصادية، أن الأعراق والأديان والتقاليد واللغات المختلفة ليست محكومة بصعوبة التعايش، وأن بوسعها العيش بسلام وتعاون، وتقطف بالتساوي ثمار التقدم من غير أن تتخلى عن معتقداتها وتقاليدها. ورغم أن غالبية السكان يتحدرون من أصول صينية (75 في المائة)، يتعايش هؤلاء مع الهنود التاميل والمسيحيين في أجواء من التسامح والتفاهم، مما أسهم بنسبة كبيرة في التطور المذهل الذي حققته هذه الدولة منذ نيلها الاستقلال عام 1965 لتصل إلى ما هي فيه اليوم من ازدهار ونمو.
هذا الإنجاز الاستثنائي يعود الفضل الأكبر فيه إلى لي كوان يو، الذي شغل منصب رئيس الحكومة طيلة واحد وثلاثين عاماً، والذي تهافتت حشود ضخمة من سكان الجزيرة لوداعه يوم جنازته. وما زالت أفكار ومبادرات هذا الزعيم، الذي درس في إنجلترا، وتخرّج في جامعة كامبريدج، تسدّد خطى هذا البلد، حتى أن أشد منتقديه يعترفون بأن لنشاطه وفطنته الفضل الكبير في تحديث هذا المجتمع. كان النظام الذي أسّسه استبدادياً، رغم حفاظه على بعض مظاهر الديمقراطية، لكنه خلافاً لأنظمة الاستبداد الأخرى، لم يكن طاغية، ولم يسمح لمعاونيه بجمع الثروات عن طريق استغلال السلطة، كما حافظ على استقلالية القضاء الذي كان ينزل أشد العقاب في حالات الفساد القليلة التي كان ينظر فيها. وكان حزب لي كوان يو يفوز في جميع الانتخابات من غير اللجوء إلى التلاعب بنتائجها، ويفسح المجال دائماً لوجود معارضة صورية في البرلمان، كما هي الحال في الوقت الراهن. الصحافة شبه حرة، أي أن بوسعها انتقاد سياسات الحكومة، لكنها ممنوعة من الدفاع عن الأفكار الثورية، وهي تخضع لقوانين صارمة تحظر عليها التشهير لمعتقدات وعادات وتقاليد الثقافات والديانات الأربع التي تتعايش في سنغافورة. وعلى غرار لندن، ثمة منبر حر Speaker’s Corner في إحدى الحدائق العامة، حيث يُسمح بعقد اجتماعات، وإلقاء خطب ضد الحكومة وسياساتها، شريطة أن يكون ذلك مقصوراً على مواطني سنغافورة.
المعجزة السنغافورية ما كانت لتحصل لولا وجود شرطين أساسيين وضعهما لي كوان يو الذي كان اشتراكياً ومناهضاً للشيوعية، في بداية مساره السياسي: رفع التعليم الرسمي إلى أعلى المستويات، حيث كان لسنوات طويلة يخصص له ثلث ميزانية الدولة، وسياسة إسكان سمحت لغالبية المواطنين بتملك المنزل الذي يعيشون فيه. كما حرص على دفع رواتب عالية للموظفين العموميين، بهدف ردعهم عن الفساد، واستقطاب الشباب المؤهلين والمتفوقين لخدمة الدولة.
من المعروف أن سنغافورة كانت دائماً بوابة بحرية مفتوحة على العالم وشجّعت حركة التجارة الدولية، لكن التنمية الاقتصادية المذهلة التي حققتها لم تكن بفضل موقعها الجغرافي، بل بفضل الانفتاح الاقتصادي والمحفزات التي كانت تستقطب الاستثمارات الأجنبية. وبينما كانت بلدان العالم الثالث «تدافع» عن اقتصاداتها ضد الشركات العالمية، وتركّز على النمو من الداخل، كانت سنغافورة تشرّع أبوابها للعالم، وتستقطب الشركات الكبرى، وتضع في تصرفها نظاماً مصرفياً ومالياً فاعلاً ومتطوراً، وإدارة عامة نزيهة تستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية. كل ذلك حوّل هذه المدينة - الدولة إلى «جنّة الرأسمالية» التي يفتخر بها مواطنوها. في زيارتي الأولى إلى هذه الجزيرة عام 1978 أذهلني أن أجد في هذه الزاوية الصغيرة من آسيا جادة تعجّ بالمتاجر الفخمة على غرار الجادة الخامسة في نيويورك، أو فوبور سانت أونوريه في باريس أو مايفير في لندن. يومها قال لي رئيس غرفة التجارة البريطانية السنغافورية الذي كان برفقتي: «عندما كنت طفلاً، كانت هذه الجادة التي تذهلك اليوم مكتظة بالأكواخ المرفوعة على أعمدة خشبية هزيلة فوق الوحل والتماسيح».
ليس كل ما في سنغافورة مدعاة للحسد الذي يثيره نظامها الصحي الذي يضع خدماته في متناول الجميع، أو معاهدها وجامعاتها النموذجية المفتوحة لكل المواطنين بفضل نظام واسع من المنح والقروض. لكن من الأسف أن نظامها القانوني لا يزال يطبق عقوبات قاسية.
هل كان هذا التحوّل المذهل في سنغافورة ممكناً من غير استبداد والاكتفاء حصراً بالطرق الديمقراطية ؟ أنا على قناعة راسخة أنه كان ممكناً، شريطة أن تؤمن بذلك الأغلبية الساحقة من السكان، وتدعم برنامجاً إصلاحياً مثل الذي وضعه لي كوان يو. أقول ذلك لأنه، وربما لأول مرة في التاريخ، لم يعد ازدهار بلد أو تخلفه وفقره رهناً لاعتبارات الجغرافيا، أو القوة، بل يأتي ذلك ثمرة للسياسات التي تتبعها الحكومات. الدول المتخلفة تنأى عن القضايا الشعبية وتتذمّر منها، وتجنح نحو الأنظمة الفاشلة، بينما اختارت سنغافورة الطريق المعاكسة، وقضت على الفقر والبطالة، ووفّرت لجميع مواطنيها الخدمات الصحية والتعليمية والمسكن اللائق، أياً كان مستوى ثروتهم أو مركزهم الاجتماعي. حبذا لو أن الدول الفقيرة والمتخلفة تعتبر بأمثولة سنغافورة.