د. ياسر عبد العزيز
TT

التلفزيون السوري: هرب قيصر... عاش قيصر!

استمع إلى المقالة

يوم الأحد 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بث التلفزيون الرسمي السوري عبارة «انتصار الثورة السورية العظيمة» على أثيره، قبل أن يُكرس خطابه الإعلامي بالكامل لفكرتين أساسيتين؛ أولاهما الإشادة والاحتفاء بـ«الثورة العظيمة والثوار»، وثانيتهما الطعن والذم في نظام الرئيس بشار الأسد، وفضح «استبداده وفساده».

يا له من تحول حاد وكبير... من الإشادة والمديح في القائد ونظامه، إلى التقريع والتجريح فيه وفي عهده، لكن هذا التحول الحاد والكبير لم يكن مُفاجئاً على أي حال؛ إذ يبدو أن هذا ما اعتدناه من التلفزيون الرسمي، وبقية وسائل «الإعلام العمومي»، في دول التغيير العربية، التي ضربتها الانتفاضات، وبدّلت أنظمتها.

ولقد كان بوسعنا أيضاً أن نرصد السبب المباشر في حصول هذا التحول الخطير، حين طالعنا على شاشة إحدى الفضائيات اللبنانية تقريراً يُظهر تفقد المذيعة غرفة التحكم في التلفزيون السوري، لتجد أحد رجال الفصائل المُسلحة، يجلس في موضع المراقبة والإشراف، بينما يرتدي ملابس شبه عسكرية، ويخبر المذيعة بأنه «مُقاتل» لكنه «يدرس الإعلام» في إحدى الجامعات!

كل ما سمعناه من تأييد وتهليل لنظام الأسدين الأب والابن، على شاشات هذا التلفزيون، على مدى أكثر من خمسة عقود إذن لم يكن سوى تعبير عن إرادة رجل ما، كان يجلس في موضع التحكم والإشراف في هذا التلفزيون، وعندما أُطيح النظام، ومعه هذا الرجل، حل شخص آخر يرتدي ملابس «الثوار» مكانه؛ فتغير الخطاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار... هكذا في لحظة واحدة، وبلا أي عناء.

في شهر يونيو (حزيران) من عام 2019، أراد وزير الإعلام السوري السابق عماد سارة أن يبدأ صفحةً جديدةً مع جمهور وسائل الإعلام في بلاده، بعدما بات من المؤكد أن هذا الجمهور نبذ وسائل الإعلام الرسمية، ولم يعد يعتمد عليها في التزود بالأخبار والتحليلات، وراح يبحث عن وسائط أخرى تنقل له الأخبار.

ولهذا، فقد نظم التلفزيون الرسمي آنذاك حملة إعلامية تحت عنوان «ساعدونا لنصير أحسن»؛ وهي حملة اعتمدت على إجراء مجموعة من الاستطلاعات المصورة مع جمهور الشارع، عبر توجيه السؤالين: كيف نصبح أفضل؟ وكيف نتمتع بثقتك؟

لكن الردود لم تكن مُشجعة، وفي بعض الأحيان اضطر الإعلاميون أن يخفوا شعار التلفزيون على الميكروفونات... إذ كان الجمهور مشحوناً بعدم الثقة، وعازفاً عن المشاركة، ويهيمن عليه إحساس بعدم الجدوى.

ويبدو أن الوزير أدرك خطورة الأوضاع التي آلت إليها منظومة الإعلام الرسمية، ويبدو أنه بات متأكداً من أن الاستثمارات الضخمة، والنفقات الكبيرة، والجهود التي يبذلها العاملون في تلك الوسائط أضحت في مهب الريح، لأن أحداً لا يتابع، وإن تابع، فإنه لا يصدق، والنتيجة أن الجمهور راح يبحث عن وسائط أخرى ليعرف منها الحقيقة.

وفي تفسيره لعجز منظومة الإعلام الرسمي وتردي أدائها، لم يجد الوزير كلمة أفضل من «كُبحنا»، للتعبير عن الأسباب التي فرغت تلك المنظومة من مضمونها، وأفقدتها سبب وجودها.

ثمة جهة ما كبحت وسائل الإعلام العمومية السورية إذن عن القيام بدورها، وهي جهة امتلكت القدرة على الكبح، لكنها بالتأكيد افتقدت أي قدرة على الإدارة الناجعة السليمة لمنظومة الإعلام الوطني، وهو أمر مُكلف وخطير، وها هي تكاليفه القاسية والموجعة تُدفع الآن.

لأن وسائل الإعلام الجماهيرية الرسمية في بلدان الانتفاضات العربية خضعت بالكامل لإرادة السلطة التنفيذية، فقد ركزت جل جهودها على إنجاز الوظيفة الدعائية لصالح الأنظمة الحاكمة، متحررة من قيود الجدوى الاستثمارية وحسابات العوائد المالية، ومعفاة من الخضوع للتقييم الفني، طالما أنها تنجح في أداء وظيفتها السياسية.

لقد نظرت السلطات الحكومية في دول التغيير العربية إلى مرافق الإذاعة والتلفزيون الرسميين، ومعهما أيضاً الصحف المملوكة للدولة، ووكالة الأنباء الوطنية، باعتبارها جميعاً «أدوات حكومية»، ترتبط بتفعيل إرادة السلطة التنفيذية القائمة، وتحقيق أهدافها.

وبموازاة ذلك، انفردت السلطة التنفيذية بتعيين قيادات تلك الوسائل، كما عملت على توفير النفقات اللازمة لتشغيلها، وطلبت منها في المقابل أداءً دعائياً يخدم خطها السياسي وأجندتها الحزبية، وفي هذه الحال بدأت تلك الوسائل تفقد أحد أهم أسباب وجودها؛ أي الاستقلالية، والقدرة على التعبير عن المصالح المختلفة، والمتضاربة أحياناً، على أسس مهنية تضمن التوازن والموضوعية لخدمة الدولة وجمهورها بشكل عادل.

وكما كان التحكم في إدارة تلك الوسائل سهلاً ومضموناً، كان تغيير ولائها، واستبدال خطها التحريري أسهل. والحل يكمن في ضرورة تعزيز مهنية تلك الوسائل، وتحولها إلى نمط الخدمة العامة، الذي تلتزم، من خلاله، الاعتبارات المهنية ومبادئ الاستقلالية التحريرية، بدلاً من قاعدة «هرب قيصر... عاش قيصر».