سوريا رقم صحيح في معادلة استقرار الشرق الأوسط، بوابة الحرب والسلام، حاضرة دائماً في سجلات التاريخ، تصدعت جدرانها في مراحل معينة، وكثيراً ما كانت تصمد في مواجهة العواصف وتعبر بسلام.
وبعيداً عن التاريخ الغني والممتد للأمة السورية، فإن سوريا المعاصرة خاضت أكثر من حرب في الوقت نفسه، حرب استقلال، وحرب بناء الدولة الحديثة، وما تخللتها من صراعات وانقلابات، صعوداً وهبوطاً.
حاضرة دائماً حول المائدة العربية، فهي العضو المؤسس لجامعة الدول العربية، والعضو الفاعل في منظمة الأمم المتحدة، إضافة إلى وجودها المؤثر على المسرح الدولي، خصوصاً أن وجود إسرائيل، الحاضنة الغربية في فلسطين، أعطى الجغرافيا السورية حضوراً في السياسة العالمية، وجعل منها بوابة للعواصف والأعاصير، والاشتباكات الدولية، وكما هو معروف تشكل خط الدفاع الأول عن الإقليم العربي، ولذا فإن أي إصابة في الجسد السوري، سيتداعى له سائر أعضاء الجسد العربي. اللحظة فاصلة وكاشفة، ورسائلها غامضة، في توقيت واضح، فما تشهده الساحة السورية الآن، من عودة التنظيمات والجماعات الإرهابية المدعومة من قوى إقليمية ودولية، أمر يحتاج إلى قراءة متأنية، فمن الواضح أن هناك رهاناً على أن سوريا لا تزال هشة وقابلة لاستعادة مفهوم ما يسمى «الربيع»، في طبعته الثانية، ومن ثم قد تتسع هذه الطبعة لتمتد إلى خرائط عربية أخرى، ربما هكذا قد يفكر الجالسون في المختبرات.
ثمة إشارة أخرى قد تكون أكثر دلالة، وهي أن اندلاع المعارك في شمال سوريا ضد الدولة السورية، جاء عقب إعلان قرار وقف إطلاق النار في لبنان، وهنا تتحدث الجغرافيا، في عقول المخططين، فقد كان لافتاً أن يجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومجلس الحرب المصغر في إسرائيل، لدراسة ما يجري في سوريا، ومعرفة مدى الأثر على إسرائيل، وكان نتنياهو قد هدد الرئيس السوري بالفوضى في سوريا، وذلك عقب إعلان وقف إطلاق النار، ولم تمر ساعات إلا وقد وقعت المعارك في الشمال السوري، سواء في إدلب، أو حلب، أو حمص.
التوقيت يزداد وضوحاً، خصوصاً أن بعض القوى الإقليمية الموقعة على «اتفاق أستانة» العاصمة الكازاخية 2018، لخفض التصعيد، سارع إلى إلقاء اللوم على العاصمة دمشق، بأنها كسرت بنود هذا الاتفاق، عندما أرادت أن تمد نفوذها السياسي إلى كامل الأراضي السورية.
ثمة رسالة أخرى في أن إيران تسحب خيوطها ببطء من الساحة السورية، فحاولت الجماعات الإرهابية ملء هذا الفراغ لصالح قوى أخرى، وهناك روسيا الدولة الداعمة لسوريا عسكرياً، وأمنياً، وسياسياً، تنشغل في الساحة الأوكرانية، وهذا ما دفع القابعين خلف الأبواب المغلقة إلى استغلال الفرصة في تكسير الدولة الوطنية السورية، فضلاً عن انسحاب عناصر «حزب الله» الذين كانوا يقاتلون بجوار الدولة السورية، وعودتهم إلى لبنان لخوض الحرب الأخيرة ضد إسرائيل، وهؤلاء أيضاً تركوا فراغاً جديداً ملأته الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، العابرة الحدود.
ما إن أتيحت الفرصة، رأينا مشهداً جديداً بمواصفات مشهد عام 2011، الغموض يكتنف الخرائط السورية، بل نراه يتربص بأطراف خرائط أخرى مجاورة، لاعبون جدد يقفون على خط التماس في انتظار إعادة صافرة الفوضى من جديد، هذه المرة مغايرة تماماً، سوريا، لم تتردد في الرد، أكدت قوتها وإرادتها وصمودها في مواجهة كل محاولات التهديد، أشقاؤها العرب سارعوا بالاتصال وتأكيد الدعم والمؤازرة والحفاظ على سوريا، الدولة الوطنية، التي تبسط سيادتها على كامل أراضيها.
الجميع تعلم الدرس، مناهج «الربيع» لم تعد صالحة «لخريف الفوضى»، العواصم العربية لا تزال تقترض من بنوك الوطنية لتسديد أثمان الفوضى التي ضربت المنطقة، بفعل فاعل معلوم له روابط، وامتدادات طرفية خارج المنطقة.
لا يمكنك أن تنزل النهر مرتين، وسوريا لا تزال في النهر، وإصرارها بلا حدود من أجل الخروج إلى الشاطئ، عادت إلى عضويتها الكاملة في جامعة الدول العربية، وكذلك في معظم المنظمات الإقليمية والدولية، واستعادة دبلوماسيتها المقطوعة مع معظم دول العالم، خصوصاً العربية، وباتت حاضرة في القمم العربية والدولية.
إن ما تتعرض له سوريا الآن، يمثل خطراً كبيراً، ويحمل رسائل واضحة لكل العرب، وإلى كل جوارهم، إما سلاماً، واستقراراً، وعودة للدولة الوطنية، وإما حروباً وفوضى تجتاح مسرح الإقليم العربي بالكامل، فخرائط المنطقة تخضع الآن لاختبار قاسٍ من دعاة الإرهاب والفوضى. على حكماء هذه الخرائط، أن يقرأوا الرسالة المقبلة من سوريا، في التوقيت المناسب، وأن يكون قرار الدعم للدولة السورية، غير قابل للقسمة على وجهات النظر، فالدواء قد يفلح الآن في إنقاذ سوريا، وربما لو تأخر الدواء، فإنه لن يفلح في إنقاذ سائر المنطقة. إذن، سوريا، وما تواجهه من معركة مع الإرهاب، رسالة لا بد أن تقرأ بمعرفة العرب بدقة وعناية.