د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

عندما يتم تحصين «قلعة أوروبا»

استمع إلى المقالة

اعتمد الاتحاد الأوروبي، منذ تقريباً ستة أشهر، ميثاق الهجرة واللجوء الذي سيدخل حيز التنفيذ في منتصف عام 2026، وهو الميثاق الذي يتبنى إجراءات متشددة في حق المهاجرين؛ ومنذ أيام، عقدت قمة أوروبية في بروكسيل للبحث عن الوسائل التي بإمكانها تشديد الإجراءات ذات الصلة بسياسات اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين.

قراءتنا لهاته المستجدات تسمح لنا بالخروج بعدة استنتاجات أساسية:

يحاول كثير من القادة الأوروبيين اليوم تبني سياسات اليمين وبالأخص اليمين المتطرف الذي بدأ يحصد النجاحات الانتخابية الواحدة تلو الأخرى في العديد من الدول الأوروبية، وبدأ يستهوي ليس فقط كبار السن ولكن شرائح كبرى من الشباب وصغار السن؛ والموضوع الرئيسي الذي يتبناه هؤلاء في السر والعلن هو قضية الهجرة وخطورة الجاليات وتدفق اللاجئين في الأراضي الشاسعة من الاتحاد الأوروبي موازاة مع حرية الحركة داخل منطقة شينغن؛ كما أن اليمين المتطرف ما يفتأ يكرر أن نسبة كبيرة من المهاجرين لم يهاجروا لدواع إنسانية وإنما لدواع اقتصادية، ويقومون بزرع الرعب ويلقون باللوم على فئات معينة، وأعني بذلك العرب والمسلمين الذين هم في نظرهم يشكلون خطرا على الهوية والثقافة الأوروبية، وما أتوا إلا لأسلمة أوروبا؛ ونحن نتذكر أنه عندما فتحت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل باب الهجرة دون حدود، نشبت حملة إعلامية ضدها استهدفتها واستهدفت المهاجرين في ألمانيا وفي معظم العواصم الأوروبية، وهي عوامل أججت الكراهية للمهاجرين وقربت الناخب للتيارات المعادية لهم.

المسألة الثانية أن بعض الأوروبيين بدأوا يفكرون خارج الأنماط المعهودة والأساليب المعتادة؛ ولا أدل على ذلك من قضية «مراكز العودة»، أي نقل المهاجرين إلى مراكز استقبال في دول أخرى، كما تقوم بذلك مؤخراً الحكومة اليمينية الإيطالية بقيادة السيدة ميلوني، وذلك بنقل المهاجرين إلى ألبانيا وبالضبط إلى مخيم جادير الذي يشبه ثكنة عسكرية محاطة بكل وسائل المراقبة، ويمكنه إيواء ما يصل إلى 880 مهاجراً؛ وهناك سيقوم المهاجرون الذين تم القبض عليهم من تقديم طلباتهم للجوء تحت إشراف قضاة إيطاليين يشرفون على الجلسات من خلال العديد من الشاشات التي نصبت في المخيم.

الاستنتاج الثالث أنه يتم يوماً بعد يوم تحصين المدن الداخلية والحدود، باستعمال وسائل جد متطورة «لإدارة» الهجرة وضبط تدفقات طالبي اللجوء؛ فهناك من يلجأ إلى الذكاء الصناعي لمتابعة وقبض المهاجرين غير المسجلين وغير القانونيين باعتماد آلات تشبه الهواتف الخلوية، زود بها ضباط الشرطة، وهي تساعد على التعرف على الوجوه وتحليل بيانات البصمات... كما أن بعض الشركات الخاصة طورت لصالح شرطة بلدانها أنظمة تقنية يمكنها من التعرف على اللهجات المحلية للبلدان التي يأتي منها المهاجرون؛ كما أن العديد من دول الاتحاد تستعمل طائرات مسيّرة وأجهزة مراقبة تحت-مائية ورادارات ثلاثية الأبعاد وآلات استشعار متطورة لرفع مستوى الأمن على حدودها الخارجية، وهذا المنحى جعل الخبراء يقولون بأن التكنولوجيا تجعل المناطق الحدودية أكثر خطورة على الأشخاص... إنها تفاقم العنف وتمنح حرس الحدود سلطة كبيرة....

وهذا يعني أن الشغل الشاغل عند المسؤولين الأوروبيين اليوم هو كيف يمكن امتصاص خطاب اليمين المتطرف داخل المجال السياسي العام والتغلب عليه من خلال تقديم خطابات وسياسات عمومية داخلية أكثر جرأة وأكثر جلبا للناخبين في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية محلياً وأوروبياً، وقد لخصت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان هذا الكلام، عندما قالت في اجتماع ببروكسيل جمع كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» وهي ثالث قوة سياسة في البرلمان الأوروبي، إن البعض في الاتحاد الأوروبي بدأ يسمع ويتبنى ما كنا نقوله منذ سنوات.

نفهم إذن الاجتماعات المتتالية في العاصمة البلجيكية التي أصبحت عاصمة لمحاربة وإيقاف المهاجرين السريين وبلورة القوانين الزاجرة؛ ونفهم المنحى الذي يتخذه المسؤولون من خلال عسكرة المراقبة الداخلية والخارجية لبلدانهم لمنع وصول المهاجرين السريين إلى أوروبا أو لطردهم من هناك، موازاة مع التطوير اليومي للذكاء الصناعي الذي يكون في خدمة هذا التوجه؛ ولا ننسى أنه توضع أموال كثيرة في خدمة هاته السياسات بدل البحث عن وسائل تساهم في التخفيف من المعاناة الإنسانية لهؤلاء المهاجرين في بلدانهم.

أتفق هنا مع يقوله جان ماري غوستاف لو كليزيو، الحائز جائزة نوبل للآداب عندما رفع النقاش العام إلى مستوى فلسفي من خلال تنديده بـ«إنكار لا يطاق للإنسانية» مذكراً بأنه هو نفسه كان مهاجراً. ويصح أن نقول مع آخرين أن السياسات الحالية في حق المهاجرين أسواء في أوروبا أم في دول أخرى مثل أميركا أصبحت «وحشا بلا قلب» وهي تتعارض مع قوانين حقوق الإنسان الدولية وتلك الروح الإنسانية التي تباهت بها دول لقرون جعلت منها أرض وفادة ومحبة فإذا هي الآن أرض انغلاق وكراهة.