د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ضحايا الثرثرة

استمع إلى المقالة

وضع العلماء قطعة صغيرة في فم نساء شاركن في دراسة لقياس تأثير الثرثرة على الإنتاجية، وبعد عامين دُهشوا من أن تلك القطعة قد أظهرت لهم نتيجة، مفادها أن النساء أنجَزْن أعمالهن المنزلية بنسبة 35 في المائة أكثر من المعتاد، وبنسبة 58 في المائة للمهام الوظيفية، مقارنةً بمن لم يستخدمن تلك القطعة، حسبما ذكرت مجلة «نيوإنغلاند» الطبية، ليس هذا فحسب، بل حتى الموظفات اللاتي لم يشاركن في الدراسة، ارتفعت إنتاجيتهن في العمل بنسبة 85 في المائة، وربما حفزتهن الأجواء الهادئة على الإنتاجية.

تتّهم بعض الثقافات المرأة بالثرثرة، لكنه سلوك منتشر بين الرجال كذلك؛ إذ يبدو أن تعريف الرواية بأنها «أدب التفاصيل الدقيقة»، قد ألقى بظلاله على الروائي الإنجليزي «تشارلز ديكنز» الذي يُروى أنه كان يثرثر بلا توقف، وسجّل التاريخ أطول خطبة في الأمم المتحدة للمبعوث الهندي كريشنا مينون، لنحو ثماني ساعات... وقيل إنه أصيب بالإعياء بعدها، وحاول الزعيم فيديل كاسترو أن يقلّده، لكنه لم يتجاوز أربع ساعات ونيفاً.

التحدث لمدة 10 ساعات قد يشبه جهد المشي لمسافة 5 إلى 10 كيلومترات.

والإطالة تُدخلنا في دوامة الثرثرة، ولذلك كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بألا تتجاوز خطبة الوداع خمس دقائق، وهي أقل من كل خطب الجمعة في عصرنا.

أكبر فخّ نقع فيه هو لذة الاسترسال بالحديث عن الذات، وفي كتابي «لا تقاطعني» وضعت مصفوفة تشرح كيف يمكن الخروج من مأزق الحوار المُمِلّ إلى آخَر أكثر متعةً للطرفين، خلاصتها أنها: مهمة المتحدث في المقام الأول ثم المستمع، ولذلك حينما سُئل الجاحظ عن تعريف البلاغة قال: الإيجاز. وتقول العرب: «لا تُطعِم طعامك مَن لا يشتهيه»، أي: لا تُكلِّم مَن لا يجد رغبة في سماعك.

وقد نظلم البعض باتهامهم بالثرثرة، فهناك حاجات نفسية كامنة، مثل الرغبة في تأكيد الذات، وهو ما أظهرته دراسة «رايون وديسي»، من أن نقص التقدير الاجتماعي يدفعنا للثرثرة، وقد يؤدي التوتر والقلق إلى «الإفراط في التحدث»، بحسب بحث «ألدين وتايلور» (2004). والثرثرة حيلة للتحكم في الحوار وجذب الاهتمام.

يثرثر المرء مع من يُحِب، وربما ينسى نفسه، لكنه بلا شك يأنس بقُرب مَن يُصغي إليه، فالأذن سر المحبة، ولهذا أطلقتُ على كتابي الأول «أنصت يُحبك الناس».

معضلة الثرثار مع ضحاياه تتمثَّل في عدم اختياره التوقيت المناسب، واسترساله في موضوعات لم يطلب منه أحد التطرق إليها، ولذلك قيل إن الثرثار «تسأله عن الوقت، فيشرح لك كيف صُنعت الساعة»!