د. ياسر عبد العزيز
TT

الانتخابات الأميركية... آليات تأثير مختلفة

استمع إلى المقالة

إذا تُرك الأمر لحملات الدعاية الانتخابية لحسم اسم الرئيس الأميركي المقبل، فإن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس ستكون الفائزة بهذا المنصب الخطير بكل جدارة؛ لكن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك.

تنفق الحملة المؤيدة لهاريس أكثر من ضعف ما تنفقه حملة خصمها الجمهوري دونالد ترمب على الإعلانات السياسية. وعلى منصات مثل «فيسبوك» و«إنستغرام»، تتسع الفجوة في الإنفاق بينهما باطراد لمصلحة المرشحة الديمقراطية. وهو أمر لم يُحدث اختراقاً لصالحها حتى اللحظة؛ إذ تبقى الحظوظ في خانة التعادل، قبل أقل من شهر من موعد الانتخابات المرتقب في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

لطالما تم التعويل على أدوار الدعاية السياسية وأموال الحملات الانتخابية وحجم التبرعات، لحسم اسم المرشح الفائز بالانتخابات السياسية الأهم في العالم. ولطالما جرى التركيز على أدوار وسائل «التواصل الاجتماعي» المؤثرة في هذا الصدد، في وقت تتصاعد فيه أهمية أنشطة العلاقات العامة والاتصال في المجال السياسي بصورة غير مسبوقة.

لكن الانتخابات الرئاسية الأميركية المُنتظرة لا تُظهر استجابة مواتية في هذا الصدد؛ إذ يبدو أن حسم تلك الانتخابات لن يتأثر كثيراً بمبلغ العشرة مليارات دولار التي تقدِّر بيوت الخبرة المتخصِّصة أنها ستُنفق خلال المنافسة الضارية، بزيادة بلغت نسبتها نحو 25 في المائة عن الانتخابات السابقة في 2020.

ويرجع ذلك إلى أن معظم تلك الأموال يُوجَّه للإعلانات السياسية التي تستهدف أساساً تعزيز إقبال المؤيدين وتحفيزهم للمشاركة، ومحاولة التأثير في المتأرجحين الذين لم يحسموا أمرهم حيال أحد المرشحَين المتنافسَين، وهؤلاء تقدرهم استطلاعات الرأي الموثوقة بنحو 3 في المائة فقط من الناخبين المُنتظر إدلاؤهم بأصواتهم.

لن يفعل المال السياسي الكثير في خضم تلك المعركة الساخنة، وذلك لا يعود لقلَّته، كما لا يعود لتقلص أهمية الحملات الدعائية؛ لكنه يرجع ببساطة إلى أن تلك الانتخابات تجري بين مرشحَين يجسِّدان الانقسام الكبير الذي يشهده المجتمع الأميركي، ويتمتع كل منهما بمخزن تصويتي داعم، ينطلق في مساندته من اعتبارات سياسية واجتماعية ونفسية عميقة، ولا ينتظر حثّاً أو إلحاحاً ليتحرَّك في اتجاه معين.

لذلك، فقد جرى الاتفاق بين أركان الحملتين على تخصيص المبالغ الأكبر للولايات المتأرجحة، ولاستهداف شريحة الـ3 في المائة التي لم تحسم أمرها بعد، وهو أمر يعكس بوضوح الحالة التنافسية الراهنة التي تشهد اصطفافاً مبدئياً للنُّخَب والأفراد العاديين، بمعزل عن مفاجآت الساعات الأخيرة، وانتظار هنات المنافس، أو خفوت جاذبيته وتأثيره بشكل مفاجئ.

ورغم أن وسائل «التواصل الاجتماعي» تحظى بتأثير وتمركز عميقين في الواقع السياسي الأميركي، ورغم أدوارها المؤثرة عادة في الاستحقاقات السياسية السابقة؛ يبدو أن تأثيرها في انتخابات نوفمبر المقبل لن يكون بالقدر ذاته من الحسم أو الأهمية.

صحيح أن عدد مستخدمي تلك المواقع يزداد باطِّراد، وصحيح أن الموضوعات السياسية -وفي القلب منها التنافس الانتخابي الراهن- تحظى بقدر متزايد من الاهتمام عبرها، وصحيح أنها تخضع لمُلَّاك لهم مصالح ومواقف حيال المرشحين، وأنهم يُسخِّرون منصاتهم لخدمة تلك المصالح باطراد؛ لكن مع ذلك، فإن قدرتها على تغيير حظوظ المرشحين المتنافسين تتراجع، في ظل الانحيازات السياسية السابقة للمستخدمين، وتقوقع معظمهم في «الجيوب الخوارزمية» التي تنشأ عبر طاقة الاستخدام تلقائياً، فضلاً عن انقسام تلك المنصات ذاتها بين من يؤيد ترمب ومن يدعم هاريس.

عندما رأى الرئيس جو بايدن أن يعلن انسحابه من المعركة الانتخابية، من خلال منشور بثَّه على حسابه الشخصي في «إكس»، وعندما اختار ترمب منصته «تروث سوشيال» لبث أول تعليق له على محاولة اغتياله في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وحين جرت الإعلانات المُهمة عن اختيار المرشحين لمنصب نائب الرئيس، أو الاتفاق على عقد المناظرات الانتخابية، عبر وسائل «التواصل الاجتماعي»، ظن البعض أن ذلك سينعكس مباشرة في تصاعد أهمية هذه الوسائل خلال العملية الانتخابية؛ لكن ذلك التقدير ليس صائباً على الأرجح؛ فثمة فارق كبير بين دور تلك المنصَّات بوصفها آليات اتصال سياسي لا يُنازِع أحد في مدى انتشارها وسرعتها ونفاذها، وبين دورها بوصفها مُحفزة وداعمة بشكل مباشر لأحد المرشحَين المتنافسَين، في انتخابات تبدو متعادلة الحظوظ، على قاعدة فرز سياسي واجتماعي في مجتمع منقسم، تنحصر فيه المساحة الوسطى لصالح تيارين على طرفَي نقيض في كثير من القضايا الخلافية.

سيظل المال السياسي مُهمّاً ومؤثراً في المنافسات الانتخابية، وربما يكون عاملاً قادراً على الحسم في بعض الأحيان، وستبقى وسائل «التواصل الاجتماعي» قادرة على تغيير حظوظ المرشحين في الانتخابات السياسية في كثير من البلدان؛ لكن ذلك لن يحدث -على الأرجح- في انتخابات نوفمبر الأميركية؛ لأن مناط المنافسة يتصل بدوافع أعمق من نطاق تأثيرها، ويعكس انقساماً مجتمعياً حاداً.