د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الألمان: انتقاء الأكفأ

استمع إلى المقالة

يبدو أن مدرسة علم النفس الألمانية قد تفوقت على نظيرتيها البريطانية والأميركية قبل أن تندلع الحرب العالمية. ذلك أن الألمان كانت لهم محاولات غير تقليدية في انتقاء من يصلح للانضمام إلى صفوف الجيش عبر الاختبارات. انطلقت رياديتهم مع تأسيس أول مختبر تجريبي لعلم النفس عام 1879.

وقد أجرى الألمان اختبارات قدرات عقلية لانتقاء أمهر الطيارين وسائقي الشاحنات، حيث خضع الطيارون إلى امتحانات قاسية لقياس مقدرتهم على سرعة اتخاذ قرارات في المواقف الخطرة، مما عزّز من قوة الدفاع الجوي الألماني، التي أذهلت خصومهم. ودرس الألمان الدوافع النفسية للجنود في لحظات الخطر. وهذا ما دفع عالم النفس البريطاني فيليب فيرنون إلى إنصافهم بالقول إن السنوات العشر التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانت «الأكثر متعة في تاريخ علم النفس منذ وفاة أرسطو».

المعضلة كانت أن البريطانيين قد اكتشفوا متأخراً أن كثيراً ممن دربوهم قد راحوا ضحية «صدمة القصف» التي أصابتهم بعدم القدرة على الكلام والمشي والنوم بسبب حدة الذعر. المفارقة أن المصطلح نفسه أطلقه عالم النفس الإنجليزي مايرز في الحرب الأولى. فبدأت تتلاشى معتقدات المصحات النفسية بأن ذلك يعود إلى عوامل وراثية. هنا بدأ البريطانيون والأميركيون بالالتفات جدياً إلى علم النفس، الذي كانت تدور رحاه في مصانعهم.

الأميركيون فعلوا اختبار «ألفا» الذي يعتمد على المعرفة اللغوية والقراءة والكتابة (للمتعلمين)، واختبار «بيتا» الذي يرتكز على المهارات البصرية وغير اللفظية لتقييم الذكاء (للأميين) فاختبروا أكثر من مليون مجند، ثم كانت النتيجة صادمة عندما صُنف نصفهم بأنهم «متخلفون عقلياً» هذا ما دفعهم إلى إيقاف البرنامج بعد الحرب، بحسب موقع العلوم السلوكية.

الاختبارات تعطي مؤشراً على جوانب شخصية الفرد وعلمه، مثل اختبار القبول بالجامعات الأميركية (SAT) المستخدم حالياً، الذي طوّره كارل بريغهام الأستاذ في برينستون، حيث بناه أساساً على اختبار «ألفا». غير أنني أرى أن كثيراً من «القيادات» والشخصيات الفذة تضيع فرص استقطابها عند الاعتماد «الكلي» على ورقة اختبار. فالإنسان يظهر معدنه ويصقل في ميادين المعارك والعمل. غير أنها بحد ذاتها محاولة وجيهة وتستحق التقدير.

روعة ما حدث تكمن في لجوء البشر إلى العلم. ورغم أن قيادات الجيش لم تعتد الاستعانة بمستشارين مدنيين «لانتقاء» الأكفأ، فقد كشف علم النفس عن جوانب خفية في بيئات العمل. قدمها العلماء لنا كفرصة ثمينة للتأمل قبل اتخاذ قرار يحطم معنويات البشر أو ننتقي من خلاله من لا يستحق شرف الانضمام إلى صفوفنا.