العنوان أعلاه ليس لي، ولكنه لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وقد استخدمه لوصف منصة «روسيا اليوم» (آر تي)، المملوكة للدولة الروسية، خلال إيجاز صحافي أدلى به يوم الجمعة الماضي. وأما سياق هذا الوصف، بما تضمنه من موقف حاد ومثير، فإنه يتعلق بالحرب المكتومة بين المعسكرين الغربي والروسي، التي يبدو أنها تشمل وسائل ومجالات شتى، ليس منها القتال المباشر بالسلاح.
ففي صراعات الأمم، يبرز لاعب تتطوّر أدواره باطراد، لكن جوهر مهمته لا يتغير... إنه الإعلام، الذي أدت التغيرات العالمية الفارقة، التي شهدت المزاوجة بين النصوص والصور من جانب وتقنية المعلومات من جانب آخر، إلى تعظيم تأثيره بدرجة غير مسبوقة.
ومع تزايد قدرات البث عبر الأقنية التقليدية، وطبيعة النظام الاتصالي الدولي المنفتحة والعابرة للحدود، فضلاً عن دور وسائط «التواصل الاجتماعي» المتجاوز لأي عائق، بموازاة ازدهار تقنيات الاختلاق وتشويه الحقائق والتزييف العميق، بات الإعلام سلاحاً لا غنى عنه، ولا تشكيك في قدرته على التأثير.
وعلى عكس ما يعتقد البعض، فإن المعسكر الشرقي لم يكن غائباً عن الاهتمام بدور الإعلام المؤثر والمتصاعد، وكان الزعيم السوفياتي الراحل خروتشوف أكثر وضوحاً في ذلك؛ حين قال: «الصحافة سلاحنا الفكري والآيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والآيديولوجي بغير سلاح الصحافة».
لقد انهار الاتحاد السوفياتي، لكن مع مطلع الألفية الجديدة، ظهر رجل صلب وعنيد، سيقول العالم عنه إنه «قيصر جديد»، وسيحاول إعادة بناء روسيا الاتحادية لترث الإمبراطورية المنهارة، وسيعمل بدأب في مجالات عديدة لكي يُصلّب عناصر قوة شاملة يمكنها أن تنهض بأعباء المواجهة وتحقيق الاختراقات مع العالم الغربي المتحفز والجوار «المراوغ».
سيعمل فلاديمير بوتين، القادم من عالم الاستخبارات، على ملفات الاقتصاد والتماسك الوطني والسلاح وبناء النفوذ الدولي والإقليمي، ولن يستثني الإعلام، الذي أظهر مهارة لافتة في تطويره وتعزيز قدراته.
لم تبنِ موسكو «البوتينية» نظاماً إعلامياً للدفاع فقط، لكنها طورت أدواته الهجومية بشكل ملموس، وقد تحققت النتائج الباهرة بشكل فاق التوقعات، حتى سمعنا الصراخ يعلو في الغرب ومناطق أخرى من العالم تنديداً وتحذيراً من الهجمات الإعلامية الروسية الفعالة والمؤثرة، وهي هجمات قامت «روسيا اليوم»، وبعض شقيقاتها بدور مؤثر فيها.
يسود اعتقاد على نطاق واسع في الغرب، مشفوعاً بأدلة ونتائج دراسات أجرتها بيوت علمية وآليات استخباراتية، مفاده أن الآلة الإعلامية الروسية نجحت في تحقيق اختراقات في بيئات غربية منفتحة، وأنتجت أثراً في سلوك الجمهور في قضايا حيوية؛ مثل الانتخابات الرئاسية الأميركية ابتداء من عام 2016، و«بريكست»، واضطرابات «أصحاب السترات الصفراء»، وتداعيات «كوفيد - 19»، والأهم من ذلك بالطبع الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث دُهشت مراكز تفكير غربية من قدرة الإعلام الروسي على التأثير في مسارات الإدراك العالمي لتلك الحرب.
وفي هذه الأزمة الأخيرة خصوصاً، سيمكن استخلاص جوانب الاستراتيجية التي اتبعها كلا الجانبين حيال المواكبة الإعلامية لها؛ فعلى الجانب الروسي سيظهر أن موسكو، التي تدرك جيداً أنها تعاني من خلل رهيب في موازين القوى الإعلامية مع الغرب، لجأت إلى الحل الأسهل والأكثر اتساقاً مع قدراتها وطبيعة نظامها السياسي. وتماشياً مع هذا الحل، استخدمت موسكو وسائل الإعلام الوطنية أداةَ قتال كاملة الأركان، عبر اعتماد «تكنيكات» الدعاية المباشرة، وتكريس الصوت الواحد، وحجب المواقع والوسائل والأصوات الناقدة والمناوئة، وتخصيص جهود وموارد كبيرة لشن هجمات إعاقة ضد الوسائط الغربية، في إطار تحقيق «سيادة رقمية» قالت إنها بلغتها في عام 2022، قبل أن تواصل الشكوى وتسليط الضوء على «الانتهاكات الإعلامية الغربية التي تستهدف تلطيخ سمعتها وإضعاف موقفها» على الصعيدين المحلي والدولي.
يقول بلينكن إن بلاده ستتخذ إجراءات، بالتنسيق مع حلفاء، لإسكات صوت «روسيا اليوم» وشقيقاتها، أو تحجيمه، وسيؤكد أن ذلك لا يناقض «التزامها الدائم بحرية الرأي والتعبير»، ولكنه يستهدف «قناة استخباراتية تمتلك القدرات اللازمة للقيام بعمليات سيبرانية، وشاركت في عمليات التأثير السرية والمشتريات العسكرية»، وهو أمر ستسخر منه رئيسة تحرير المنصة، مارغريتا سيمونيان، بالقول: «نعم هذا صحيح، فقد كنا نبث طوال الوقت من مقر جهاز الاستخبارات الروسي!».
لم يُعامل الغرب موسكو إعلامياً بـ«قيمه وأساليبه» المُعلنة في المجال الإعلامي، ولكنه تعامل بالمثل؛ حجب بحجب، وتقييد بتقييد، وفي إطار تلك المعاملة، راح يتهمها بتسخير أدواتها الإعلامية للأدوار الاستخباراتية، وهو الوصف الذي طالما استخدمته موسكو، وعواصم عالمية أخرى، في وصفها لمنظومة الإعلام الغربية، بل وأوردت ما قالت إنه «أدلة دامغة عديدة» لتأكيده.