لو صدّقنا كل التهم التي نسمعها ونقرأها عن الآخرين، التي تنفي عنهم صفة العروبة والإسلام، فعلى الأرجح أن الغالبية منا لن يكونوا عرباً أو مسلمين. ستكون القلة الذين يوجّهون الاتهامات يميناً ويساراً، ويقيمون حفلات مستمرة من التخوين، ويطردون الآخرين من جذورهم العربية أو عقيدتهم الدينية هم فقط المسلمين والعرب! أما ملايين في هذه المنطقة فلا. خارجون من العروبة، ومارقون من الإسلام. وبعدها نسأل أنفسنا ونحن إذن مَن؟ عرب ومسلمون أم ماذا؟
الآلية التي يستخدمونها هي آلية التخوين المعروفة، التي لا تعمل إلا باستخدام أهم المعاني والقيم لدى الشعوب، ولكن بعد تفريغها من معناها، وتحويلها إلى سلاح يُوجَّه لصدر الخصوم لأهداف متعددة: اغتيال الشخص معنوياً، الترهيب، الابتزاز! العروبة والإسلام اللذان من المفترض أن يمثلا عاملاً مشتركاً وثقافة جامعة لشعوب المنطقة أصبحا من أدوات الكراهية والتقسيم والانتقام! الاختلاف في الرأي يقذفك خارج دوائر العروبة والإيمان.
الأسئلة المهمة هي: لماذا تنتشر هذه الثقافة؟ وما هدفها؟ وكيف بدأت؟ وكيف نعالجها ونكافحها؟
بدأت قديماً، ولكن نشرتها في عصرنا الحديث التيارات القومية والدينية المتطرفة التي هيمنت في عقود سابقة. أيُّ خلاف مع أنصار هذا التيار القومي المتطرف بفروعه المختلفة يعني تهمة بالعمالة للغرب والإمبريالية والرجعية. وهي مستمدة من الحركات القومية الأوروبية المتطرفة، مثل النازية والفاشية، التي استخدمت الخطاب ذاته. ونعرف في تلك الفترة وحتى الآن كم الشتائم البذيئة والاتهامات بالتخابر والصهيونية لمجرد الاختلاف في رؤية الأشياء. هم فقط حراس القومية، ويدخلون ويخرجون منها مَن يريدون. إذا رضوا عليك جعلوا منك قومياً ووطنياً، وإذا غضبوا منك جعلوا منك خائناً عميلاً. من الجانب الديني، نشرت التيارات المتطرفة، خصوصاً جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسنية، ثقافة التخوين والتكفير والإخراج من الملة. وكأن الإسلام ملك لهم وحدهم. إذا كنت معهم أدخلوك في الدين الإسلامي، وإذا اختلفت معهم طردوك منه، وأغلقوا الباب خلفك. يلعبون دور الله تعالى الذي يُدخِل ويُخرِج من رحمته من يشاء. لنشكر الله الرحيم أن مصيرنا ليس بأيديهم.
ما الغرض من آلية التخوين؟ ليست عبثاً، ولكن لأغراض متعددة؛ أولاً: تستخدم لإضفاء الشرعية على هذه التيارات والحكومات التي تعتمدها. ترديد مثل هذه الشعارات من دون عمل أي شيء سيمنحها الشرعية المطلوبة عند شعوب عاطفية تنخدع بها. إنها خدعة قديمة جديدة. ثانياً: بغرض التشتيت عن الفشل الداخلي. ولاحظوا أن الحكومات الفاشلة استخدمت هذه الشعارات حتى تخرج من أزماتها الداخلية. ثالثاً: بحثاً عن السلطة، وهذا مثل ما تفعله الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي لا تُخوِّن فقط، ولكن تقتل باسم الدين من أجل الوصول إلى السلطة. رابعاً: من أجل الترهيب والابتزاز والإخضاع، سواء لأفراد أو جهات أو حكومات.
ومن أجل ذلك، تستخدم أعدل القضايا من أجل كل ما ذكرناه، الشرعية والسلطة وتثبيت الحكم والابتزاز، كما يحدث الآن مع غزة. وبينما أهل غزة يُقتلون يومياً بطريقة وحشية، التفت هؤلاء إلى الآخرين يخرجونهم من الدين والعروبة باسم فلسطين، ويوزعون صكوك الغفران والوطنية. وحتى إنهم قاموا بتخوين الفلسطينيين أنفسهم وأهل غزة الذين يدفعون الثمن من دمائهم. ولو لاحظنا أنهم استخدموا هذه القضية بحثاً عن السلطة، ولهذا انصبَّ جهدهم على عدد من الدول العربية والتحريض عليها، مُتَّهِمِينَها بالتواطؤ والعمالة من أجل تقويض شرعيتها.
كيف نعالج هذه الثقافة؟ أولاً بالاعتراف بها ومعرفة مصادرها كما ذكرت. إذا عرف الشخص جذور المشكلة سهل عليه معالجتها. هذه التيارات والجماعات هي مَن روّجها وزرعها في العقول، ولكن التخوين ثقافة المهزومين، والدليل أن الحكومات والتيارات والجماعات التي تبنَّتها فشلت وانهارت، من الناصرية إلى البعثية إلى الخمينية إلى الإخوانية. مكافحتها تبدأ من نشر ثقافة بديلة، تنطلق من فكرة أن المزايدة على الآخرين بالدين والعروبة والوطنية فكرة خاطئة ومضرة بالمجتمع، وتتسبب في تقسيمه وزرع الكراهية داخله. المجتمع ينقسم إلى وطنيين وخونة، ومسلمين وكفار، وهذا لا يخدم أي قضية، ولكن يُحوِّلها إلى ذريعة للانتقام. إنها أيضاً خزان للأحقاد التي تتوارثها الأجيال. إذا تشرَّبت أن الآخرين خانوا وطنك وباعوه فستشعر بشكل طبيعي بالحقد عليهم. التخلُّص منها هو الحل الوحيد، وذلك أيضاً لاستبدال ثقافة التسامح بها، وفهم الدين بصورة رحبة وإنسانية، ومن المعيب استخدامه مسدساً كاتماً للصوت، وكذلك فهم القومية بأنها عنصر جامع لأبناء الوطن الواحد، والقومي الجيد هو الذي يخدم وطنه، ويسهم في ازدهاره، ويحمي مواطنيه من الحروب المدمرة، ويحفظ أرواحهم. نزع ثقافة التخوين واستبدال ثقافة متحضرة بها ليس سهلاً، ولكن ليس صعباً. وبرأيي أننا نعيش اللحظة المناسبة لتغييرها، خصوصاً مع حكومات معتدلة في المنطقة، وخصوصاً في الخليج، مستنيرة تركز على النجاح الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وليست بحاجة إلى استخدام الشعارات القومية والدينية المتطرفة لإثبات حكمها وبسط شرعيتها. لقد أثبتت نجاحها، وتحولت إلى نموذج لغيرها من دون أن تستخدم الخدعة القديمة المملة. ولهذا تحولت إلى هدف للمخونين؛ لأنها لا تستخدم لغتهم، ولا تخضع لابتزازهم، ولا تزج نفسها بحروبهم العبثية. لقد حافظت على قوة الدولة، ولم تسمح بظهور ميليشيات وجماعات تضعفها وتؤدي إلى تفككها (وهذا هو الهدف)، وركَّزت على الإنسان فقط، من دون أن تخرجه من دينه أو عروبته! لقد حان الوقت لنشر الثقافة الوطنية الإنسانية الأخلاقية العقلانية والدينية الرفيعة، بعيداً عن ثقافة التخوين، وكل ما تحمله من سموم وأحقاد وكراهية.