د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

مفاجأة كييف في كورسك والحسم المفقود

استمع إلى المقالة

الحروب لا تعرف سرديةً ذاتَ اتجاهٍ واحد، هناك دائماً مفاجآتٌ تعيد ترتيبَ السردياتِ لبعض الوقت، وإن صمدت طويلاً تصبح نقطةَ تحولٍ تغير القواعدَ والمواقفَ معاً. ما حدث في كورسك الروسية ينطبق عليه جزءٌ من إعادةِ ترتيب السرديات، أو على الأقل إضافة أبعادٍ جديدةٍ ومختلفة لما هو سائد. صمودُ القوات الأوكرانية في كورسك وبقاؤها ومواجهةُ الهجماتِ المضادة الروسية، عندها تواجه السرديات الشائعة نقطة تحول كبرى، بيد أن الجزمَ بحدوث هذا التحول ما زال فاقداً للكثير من اليقين.

لقد فاجأت القوات الأوكرانية الجيشَ الروسي ودفاعاته المختلفة في السادس من أغسطس (آب) الحالي، وتوغلت في الأراضي الروسية، وسيطرت على عدة بلدات، قدرت بنحو 80 بلدة، وتعتمد حسب المعلن من قائد الجيش الأوكراني استراتيجية التمركز فيما استولت عليه، وهدفها نقل الحرب إلى العمق الروسي، ما أثار الكثير من علامات الاستفهام، ليس فقط بشأن طبيعة المفاجأة وفشل الاستخبارات الروسية في اكتشاف الأمر، وضعف الدفاعات الروسية جزئياً، وإنما أيضاً بشأن هدف أوكرانيا الرئيسي والكبير من وراء تلك العملية، وإلى أي مدى يمكنها التوغل لمساحات أكبر من الأراضي الروسية، وإلى أي مدى زمني يمكنها البقاء هناك.

المفاجأة الأوكرانية جاءت بعد نحو العام من فشل ما عُرف بالهجوم المضاد، الذي تم الترويج له قبل حدوثه وأثناء حدوثه باعتباره سيؤدي إلى هزيمة روسية كبرى تدفع القيادة في موسكو إلى الانسحاب من كامل الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية. الأمر لم يحدث على النحو المأمول، وبات الفشل الكبير آنذاك دافعاً للجدل داخل أروقة الغرب والناتو على وجه التحديد، حول مدى قدرة الجيش الأوكراني في ظل الدعم العسكري والاستخباراتي الهائل الذي يحصل عليه في تحقيق تحول استراتيجي يغير مسار الحرب، ويضع روسيا في مأزق يدفعها إلى الانصياع لمطالب أوكرانيا ومطالب الغرب معاً. وجاء الفشل ليضع حداً آنذاك لكل التصورات المتفائلة بأن جيش أوكرانيا يمكنه سحق الجيش الروسي، وتحرير الأراضي التي استحوذ عليها بالفعل في دونيتسك وغيرها من المناطق شرق البلاد.

مفاجأة التوغل الأوكراني في كورسك جنوب روسيا، في الرابع من أغسطس الحالي، أعاد الجدل مرة أخرى حول حدود الهدف من تلك العملية، في الوقت الذي تتقدم فيه القوات الروسية في شرق أوكرانيا، وإن ببطء، في دونيتسك، وتقترب من السيطرة على نقاط ارتكاز استراتيجية تقطع كل إمدادات الجيش الأوكراني وتثبت الوجود الروسي وتمنحه قدراً من السيطرة الممتدة. في الجدل الراهن نلحظ 3 عناصر تستحق قدراً من التأمل؛ أولها أن التوغل في أراضٍ روسية يثبت للجميع أن الدعم العسكري الغربي الهائل لأوكرانيا له العديد من الفوائد السياسية والاستراتيجية، ليس فقط في صراع أوكرانيا مع روسيا، بل في صراع الغرب ككل مع روسيا، فمن جانب يكشف مواضع هشاشة وضعف بالغة في الجيش الروسي، كما يثبت حدود القدرة الروسية على السيطرة على ما استحوذت عليه من أراضٍ أوكرانية. لكنه في الوقت نفسه لا يمثل نقطة تحول رئيسية في مسار الحرب، لا سيما أن القوات الروسية بدأت خطة هجوم مضاد، يبدو وفقاً للبيانات الروسية أنه يحقق نجاحاً نسبياً يتمثل في تدمير العديد من المدرعات الأوكرانية وقتل عدة آلاف من الجنود المهاجمين، ما يعني أن استراتيجية التمركز الأوكراني في الأراضي الروسية تواجه بتحديات كبرى.

العنصر الثاني يتعلق بالأبعاد النفسية والدعائية المصاحبة للتوغل الأوكراني، التي استُهدف من ورائها تحقيق نوعٍ من اللايقين لدى الرأي العام الروسي تجاه قيادة البلاد، وتجاه إمكانية تحقيق انتصار روسي يدفع كييف لقبول التنازل عن جزء من أراضيها. معروف أن الحرب النفسية هي مكون أساسي في الحروب، ولكنها ليست في اتجاه واحد، فهناك اتجاه مضاد تجيد ممارسته السلطات الروسية، وهو ما يجعل التأثير المرغوب أوكرانياً محدوداً، لا سيما مع تصوير موسكو للداخل الروسي أن التوغل الأوكراني عمل إرهابي بامتياز يستهدف أمن البلاد والمواطنين، لا يمكن التهاون في مواجهته، ويثبت من وجهة نظر موسكو أن النظام الحاكم في كييف هو نظام عميل للغرب الساعي لهدم الدولة الروسية بأسرها، وبالتالي فإنَّ إسقاطه يُعد مشروعاً.

العنصر الثالث ذو صلة بما يُثار بين فترة وأخرى حول تسوية سياسية ومفاوضات تُنهي الحرب، فالتوغل الأوكراني نظرياً، وفي حال صموده لفترة أطول، يمكن أن يوفر لكييف قدراً من النفوذ في أي مفاوضات محتملة. مبدأ تبادل الأراضي يمكن طرحه كجزء من تسوية مفترضة. لكن يظل الأمر مرهوناً بقدرة القوات الأوكرانية على البقاء والسيطرة الفعلية على ما توغلت فيه بالفعل. والمشكوك فيه أن يقبل الكرملين هذا التصور كأساس لأي مفاوضات محتملة، وفي حال قدرة الجيش الروسي على إخراج القوات الأوكرانية من الأراضي الروسية ولو بعد عدة أسابيع، سوف تتحول الدفة مرة أخرى نحو التشكيك في قدرة أوكرانيا على إحداث تحول كبير في طبيعة الحرب نفسها، وسيُعاد مرة أخرى التذكير بالفشل الكبير للهجوم المضاد قبل عام.

وأياً كانت النتيجة التي ستنتهي إليها المفاجأة الأوكرانية، فمن الحكمة عدم إغفال أن عملية كورسك ليست بعيدة عن التخطيط والمساندة بالمعلومات والأسلحة من الغرب إجمالاً والناتو تحديداً. وتبدو الدعوات كما في بريطانيا وألمانيا حول ما يوصف بحق الجيش الأوكراني باستخدام الأسلحة الغربية بعيدة المدى في العمق الروسي، مؤشراً قوياً لرغبة الغرب المُعلنة والموثقة في استمرار الحرب وإنهاك روسيا وجيشها وقيادتها وهزيمتها استراتيجياً.