د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الملاحظة... دهشة العلم الأولى

استمع إلى المقالة

كلما وقفت في انتظار لحظة تحرك سير الحقائب في المطارات تذكرت الأميركي هنري فورد الذي قيل إنه اكتشف خط «إنتاج» السيارات مصادفة، وهو ينظر إلى آلة تقطع رؤوس الدجاج وتسلخها دفعة واحدة بطريقة أوتوماتيكية في أحد محال بيع الدواجن الحيَّة، مما سرّع عملية الإنتاج.

في هذه اللحظة بدأت ثورة الإنتاج السريع على خط التجميع (Assembly Line) عندما قرر هنري أن يطبق ذلك في مصنع سياراته (فورد) قبل نحو مائة عام، حيث كانت تُصنع السيارة في غضون أسابيع بسبب فوضى تكدس العمال حولها، ثم تحوّلت إلى أيام معدودات، حيث صار كل فرد يقوم بمهمة صغيرة على خط متحرك سرَّع من وتيرة الإنتاج وجودته. فتبيَّن بالملاحظة أنه مهما كانت المهمة بسيطة مثل تركيب عجلات أو شبابيك أو مقابض، فإن تكرارها يصل بصاحبها إلى ذروة الإتقان على نحو لا يقارن بأداء مهام عدة تشتت جهده وانتباهه.

مكتشف جهاز تسخين الأطعمة «مايكروويف» الأميركي بيرسي سبنسر كان يلاحظ أنَّ ألواح الشوكولاتة تذوب في جيبه في أثناء وقوفه بالقرب من جهاز رادار كان يتم تصنيعه للجيش البريطاني في غرفة باردة فبدأ بتطوير «فرن» المايكروويف برفع قوة الحرارة عام 1945 بعد أن نجح في رمي حبيبات الذرة اليابسة حوله لتتحول إلى فشار لذيذ!

ويُروى أنه في أواخر القرن التاسع عشر اكتشف كيلوج «الكورن فليكس» مصادفة في أثناء محاولته صنع نوع جديد من الخبز بعد تركه بقايا خليط من القمح ليجف عن طريق الخطأ ثم تحول إلى رقائق ذاع صيتها لاحقاً وحملت اسمه (Kellogg’s) إلى يومنا هذا. دواء البنسلين توصل إليه ألكسندر فليمنغ، حينما لاحظ أن عفن «البنسليوم» كان يقتل البكتيريا في أطباق بتربة تركها دون تنظيف ليكتشف أنه أمام مضاد حيوي غيَّر مجرى التدخل العلاجي.

عقار الليثيوم الذي يستخدم كعلاج مهدئ للاضطراب ثنائي القطب والسيطرة على هيجان الانفعالات التي قد تدفع إلى الانتحار، كان قد اكتشف مصادفة عندما انتبه جون كيد إلى أن له تأثيراً مهدئاً على أعصاب الحيوانات. الأشعة السينية (X-rays) التي تحدد عظامنا المكسورة توقدت فكرتها في ذهن الألماني ويليام رونتجن في عام 1895 عندما لاحظ توهج ورقة بعيداً عن جهاز كان يعمل عليه. فوضع يده بين الجهاز الذي يبث أشعة والورقة فرأى صورة لعظام يده! صعق. فبدأت رحلة الأشعة التي يمكنها المرور عبر الجلد لتكشف هياكلنا العظمية. وقد قيل إن البحث العلمي يبدأ بالملاحظة.

كثير من الاكتشافات العبقرية كان يمكن أن تخرج من مختبراتنا ومدارسنا، لو أن المعلم تعامل بجدية مع تلك الدهشة التي ارتسمت على ملامح طالب العلم. فالدهشة هي نواة الابتكار وصناعاته. وما أكثر الحلول التي نكتشفها مصادفة في طريقنا نحو البحث عن أشياء أخرى.