د. ياسر عبد العزيز
TT

«مدققو الحقائق» في حاجة إلى تدقيق!

استمع إلى المقالة

ثمة الكثير مما يميز الوسط الاتصالي العالمي الراهن، وإجمالاً، سيُمكن القول إن هذا الوسط غير مسبوق تاريخياً على صُعد الكثافة والتدفق والنفاذية والتعدد والحرية، وبموازاة ذلك، سيصعب جداً إنكار أن الحالة الاتصالية المعاصرة أنتجت أيضاً أزهى عصور التزييف والتضليل الإعلاميين.

بسبب الطبيعة المنفتحة للمجال الاتصالي العالمي والتعدد اللانهائي للمتفاعلين والقائمين بالاتصال، أضحى بوسع الضعيف والمقموع والمُهمش أن يُسمع الناس صوته، لكن بموازاة ذلك، بات أيضاً بإمكان بعض أصحاب المصالح والأغراض المشبوهة استخدام تلك البيئة المنفتحة لبث الأكاذيب وترويجها، وتحويلها واقعاً موازياً تتعذر مراجعته ويصعب تقويمه.

ورغم تعدد نقاط التميز التي يتسم بها المجال الإعلامي الراهن، وبعضها يُعد غير مسبوق على الإطلاق، بسبب تطورات تكنولوجية متسارعة ومؤثرة، فإن إحدى أبرز سمات الضعف الكامنة في أنموذج التفاعل السائد تكمن في عدم القدرة على الحد من المعلومات المُضللة والاصطناع.

ولذلك، لم يُعد مستغرباً أن يعرب أفراد الجمهور العادي، في عديد البلدان، عن تفاقم مخاوفهم وقلقهم من وقوعهم ضحايا للأخبار المُضللة، كما بات من المُستساغ أيضاً أن يقرّ باحثون وصحافيون محترفون وسياسيون وقادة بأنهم تلقوا إفادات كاذبة، وأنهم صدّقوها وبنوا عليها تحليلات أو تصريحات أو قرارات.

وكما منحت التجليات التكنولوجية المُوظفة في المجال الإعلامي للصحافيين والمؤثرين الجدد وأفراد الجمهور وأصحاب المصالح فرصاً لانهائية لإنتاج المحتوى وبثه وتوزيعه على أوسع نطاق، فإنها منحتهم فرصاً مشابهة للتضليل والتزييف. وبسبب هذا العوار الواضح والخلل الخطير، بما يحمله من تداعيات سلبية على الثقة العامة ومصداقية وسائل الإعلام و«الحقيقة» نفسها، نشأت آلية «تدقيق الحقائق»، وتوسعت، وازدهرت.

واليوم، بات «مدققو الحقائق» عنصراً حيوياً من عناصر أي منظومة إعلامية، وبخاصة، بعدما بيّنت البحوث العلمية أن أكثر من 80 في المائة من مستخدمي وسائل الإعلام «الجديد» و«التقليدي» أفادوا بأنهم تلقوا إفادات مغلوطة، بينما يؤكد نحو نصف هؤلاء أنهم صدقوا هذه الإفادات، وكوّنوا مواقف استناداً إليها.

«مدقّقو الحقائق» هم أفراد أو منظمات ينتمون إلى وسائل إعلام أو منظمات وهيئات معينة، أو يعملون بشكل «مستقل»، ويتحدد أنموذج أعمالهم في التقاط إفادات أو صور أو فيديوهات رائجة على الوسائط المختلفة، ثم إخضاعها للتدقيق باستخدام أدوات تثبت تقنية وموضوعية، قبل أن يؤكدوا للجمهور صحتها أو ينفوا تلك الصحة، ويقدموا البديل، ويبرهنوا على دقته.

وعندما سيُؤرخ لهذه الحقبة اتصالياً وإعلامياً، فسيُفترض أن يكون «مدققو الحقائق» ضمن الجانب «الخيّر والإيجابي»، لأنهم ببساطة «يدققون الحقائق»، وينيرون الطريق للجمهور، ويحاربون التزييف والتضليل.

ومع ذلك، فإنه من حُسن الفِطَن القول إن «مدققي الحقائق» أنفسهم بحاجة إلى تدقيق، ولاحقاً سيكونون في حاجة إلى إرساء معايير لعملهم، و«مأسسة» لدورهم المُهم والحيوي.

كثير من «مدققي الحقائق» الفاعلين في البيئة الإعلامية الراهنة ينجزون عملاً شاقاً ومُعقداً بطريقة إيجابية مطلوبة. وهؤلاء ينتمون إلى هيئات إعلامية أو غير إعلامية، ويعلنون انتماءهم وطريقة تمويلهم وأسلوب عملهم بوضوح، لكنَّ آخرين لا يفعلون شيئاً من ذلك.

لقد تحوّل بعض «مدققي الحقائق»، من «مجهولي النسب» خصوصاً، إلى آلية جديدة للاصطياد والتحريف والتأويل المُغرض، لتحقيق أهداف تتعلق بمصالح غير معرّفة، فأسهموا في تعميق هشاشة البيئة الاتصالية وعززوا قابليتها للاختراق.

وإذا كانت هناك مسؤولية أممية ووطنية لضمان بيئة اتصالية أقل ميلاً للاختراق والتزييف والتلاعب، فإن ملف «تدقيق الحقائق» يجب أن يكون على رأس قائمة الأولويات لجهة التنظيم والقابلية للمراجعة والمحاسبة.

وسيكون تفعيل تلك المسؤولية من خلال شراكة لا بد منها بين سلطات تنظيم الإعلام وإخضاع الأداء الإعلامي «التقليدي» للتقييم من جانب، وبين القائمين على تشغيل وسائط «التواصل الاجتماعي» الرائجة، وشركات التكنولوجيا الكبرى المعنية بالذكاء الاصطناعي تحديداً من جانب آخر. وضمن تلك الشراكة يجب أن يلتزم الجانبان توفير آليات معيارية مستديمة لـ«تدقيق الحقائق»، بمثل ما تفعل الجهات التنظيمية القائمة على تنظيم الخدمات العامة؛ مثل الاتصالات والصيرفة والغذاء والصحة؛ إذ إن مجال المعلومات لا يقل خطورة عن تلك المجالات كلها، إن لم يفُقْها أهمية أحياناً.

سيقول النقاد إن مثل هذا الهدف خيالي، وإن تحقيقه مسألة صعبة، وتكاد تكون مستحيلة، في وسط تتدفق فيه المعلومات خلال ساعة واحدة بأكثر مما حدث في حقب تاريخية طويلة خلت، كما سيشكك آخرون في أهداف هذه المبادرة المقترحة بداعي أنها يمكن أن تخنق حرية الإعلام وتُقيد الاتصال.

تتمتع هذه الحجج بقدر من المنطقية، كما تعكس مخاوف مشروعة، لكن الموازنة بين الانفتاح والحرية في المجال الاتصالي وبين حق الجمهور والمؤسسات في فرز الإفادات الرائجة وتقييد المزيف منها، هدف يستحق أن نسعى لتحقيقه.