على وقع مبادرة الرئيس بايدن لوقف الحرب على غزة، بدت إمكانية الحرب الواسعة على لبنان أقرب مما يتصور البعض، بعدما تبلغت بيروت رسائل تعبر عن مخاوف مرتفعة من جدية التهديدات الإسرائيلية. أجواء متشائمة عبّر عنها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان. وجاءت أبرز الرسائل من لندن؛ إذ تبلغ لبنان أن «منتصف حزيران الجاري موعد محتمل لضربة إسرائيلية لن يكون معروفاً مدى توسعها ولا مدتها الزمنية». وكُشف النقاب عن اتصال طويل أجراه الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتين برئيس البرلمان نبيه بري، وملخصه: «أن واشنطن تصر على استكمال التفاوض للوصول إلى حلٍّ على الجبهة الجنوبية» ولكن...
ولكن، كان «حزب الله» الذي انفرد بقرار إشعال حرب «مشاغلة» إسرائيل «إسناداً» لغزة، يسعى لحرف الأنظار عن النتائج المأساوية، يتجاهل تفاخره الدائم بأن تمويله وسلاحه ولباس ميليشياته ومأكلهم من إيران، فيطلق دعوة إلى «المجهود الحربي»، داعياً الموجوعين بالانهيار والمنكوبين بكارثة الحرب لتلبيته. وتبدأ بروباغندا تروج لمقولة مفادها أن الفاتورة البشرية الباهظة، والمادية التي تكبدتها القرى المهجرة، «لا تقارنان بما كان سيدفعه لبنان كله على مستوى التدمير والقتل، لو شعرت إسرائيل بأن (الحزب) مرتدع أو خائف». يحاول التملص من المسؤولية عن نتائج حربٍ لم تؤمن «الإسناد» لغزة، ولم تعد الحجج الواهية تغطي مخطط جعل لبنان جبهة متقدمة في حربٍ لحمتها وسداها خدمة مشروع هيمنة نظام إيران وتسلطه. فإذا المحصلة تهجير الكثرة الساحقة من أهالي جنوب الليطاني، وتحويل عشرات البلدات، بين الناقورة غرباً وكفرشوبا شرقاً، إلى حزام أمني وأرض محروقة. إنها النتيجة الطبيعية لإلغاء الدولة لصالح ميليشيا تنفذ أجندة خارجية!
وتتسارع الوقائع الكاشفة لمخطط يراد منه المضي بالحرب حتى آخر غزاوي وتدفيع اللبنانيين أثماناً فوق طاقتهم. تسقط إيران التبرؤ من «7 أكتوبر (تشرين الأول)»، وتعلن أن «عملية (طوفان الأقصى) جاءت في الوقت المناسب وأفشلت مشروعاً أميركياً غربياً لتغيير المعادلات في المنطقة وتحقيق السلام مع إسرائيل». ويختار وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني لبنان لأن يكون محطته الأولى لإطلاق الرسائل، فيعلن من بيروت رفض هدنة بايدن مشدداً: «إذا كان الأميركيون صادقين، فبدل تقديم خطة لوقف الحرب في غزة، عليهم قطع المساعدات عن الكيان الإسرائيلي». بالتأكيد لن يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ذرائع أفضل لمواصلة الحرب والإبادة!
بعبارة أخرى، تعلن طهران أن الفلسطيني في غزة لا يدافع عن أرضه، وليست أولويته كسر الحصار وحكم الفصل العنصري، بل هو عنصر رئيسي في آلة تعطيل السلام الذي ترفضه طهران. ومن هنا حتى يسود وضع مغاير، ما همّ لو اختفت غزة والغزاويون. وما همّ أيضاً لو عاد لبنان إلى العصر الحجري كما يهدد قادة صهاينة قال باسمهم إيتمار بن غفير: «حان الوقت ليحترق لبنان». وقال وزير المال بتسلئيل سموتريتش: «لا بد من حربٍ على عاصمة الإرهاب بيروت». ودعت «القناة الـ13» الإسرائيلية من أمام مشهد الحرائق في شمال إسرائيل إلى اقتحام جنوب الليطاني ونقل المواجهة إلى الداخل اللبناني! لكن الوزير كني الذي بدت زيارته للبنان كأنه يزور دولة لا أصحاب لها، وقوى الأمر الواقع المتسلطة على شعبها بإمرة حرسه الثوري، طمأن فريقه الممانع بالزعم أن إسرائيل «تبحث الآن عن مخرج، وليس في مقدورها إلحاق الضرر بلبنان»!
لقد أظهرت وظيفة تحويل الجنوب ساحة في المواجهة الإيرانية مع إسرائيل وكالة من خلال «حزب الله»، قدرةً على إلحاق خسائر مؤذية بإسرائيل. ويبشر إعلام «الحزب» بأن إدخال نهاريا وعكا ضمن عمليات الضرب المباشر، فتح الباب أمام نزوح عشرات آلاف المستوطنين الذين أصبحوا تحت الخطر الذي تشكله الصواريخ والمسيّرات التي تُطلق من لبنان. لكن ما المصير الذي يحدق باللبنانيين الذين يتابعون حجم الاستباحة والاختراقات الأمنية والاستخبارية، وإمساك إسرائيل بالمبادرة العسكرية مع توسيع العمليات إلى شمال الليطاني من إقليم التفاح وصولاً إلى النبي شيت وبعلبك والهرمل وأقصى شمال شرقي لبنان؟
أثبتت تجربة الأشهر الثمانية على بدء هذه الحرب أن القدرة على إلحاق خسائر بإسرائيل لا تعني القدرة على حماية لبنان. وهنا نفتح مزدوجين كي نشير إلى ضرورة تجاوز الهراء عن القتال دفاعاً عن الأرض والشعب، فأساساً أعلن حسن نصر الله أن الهدف من «مشاغلة» إسرائيل الدفاع عن «حماس» ودعمها. وثابت أن المخطط الموكل لـ«حزب الله» تنفيذه يمر عبر إدارة الظهر لمصالح لبنان واللبنانيين، والضرب عرض الحائط برفض الأكثرية الشعبية أخذ لبنان إلى حربٍ مدمرة قضت في مراحلها الأولى على جني أعمار أبناء الجنوب، وحدد أهدافها قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني الذي قال إن «محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر في العمل من لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته»! فأبشروا!