د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

المشروع الأوروبي على المحك

استمع إلى المقالة

يعتبر الاتحاد الأوروبي تكتلاً قارياً فرضته ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأسسته في البداية ست دول عام 1992، بناء على اتفاقية ماستريخت التي بُلورت من أجل تحقيق ومأسسة التكامل السياسي والاقتصادي الأوروبي، وتوحيد السياسة الأمنية والخارجية، وتوحيد العملة، وتعزيز حقوق المواطنة والتعاون في مجالات الهجرة واللجوء والشؤون القضائية، وغيرها. ووصل عدد أعضائه عام 2023 إلى 27 دولة، وتبلغ مساحته نحو 4 ملايين كيلومتر مربع؛ أي ما يعادل نسبة 42.2 في المائة من مساحة القارة الأوروبية. يعيش فيه نحو 450 مليون شخص يتكلمون 24 لغة رسمية، ويشكّل المسيحيون نحو 72 في المائة من سكانه. كما أن هذا المشروع الفكري الوحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً يتوفر على مؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم. ورغم تباين دوله من حيث درجة التقدم الاقتصادي، فإنه استطاع إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهم في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية...

ويتمتع هذا التكتل القاري بأهمية جيواستراتيجية قل نظيرها بسبب موقعه بين قارات العالم القديم (آسيا، أوروبا، أفريقيا) والعالم الحديث (أميركا الشمالية والوسطى). كما أنه يشكل ملتقى طرق المواصلات البرية والبحرية والجوية، ومعبراً استراتيجياً ذا اتجاهين، وتقع الكتلتان الأميركيتان على أحد جانبيه، في حين تقع الكتلتان الأفريقية والآسيوية على الجانب الآخر. ولكن المشكلة اليوم أن هذا الاتحاد يمر بأخطر أزمة وجودية بسبب تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا التي بدأت يوم 24 فبراير (شباط) 2022، والتي جعلت طبول الحرب ترجع مرة أخرى إلى القارة العجوز، وجعلت كبار الاستراتيجيين يطرحون هذا السؤال: هل يمكن لهذا الاتحاد أن يكون قوة استراتيجية في بيئة أمنية دولية معقدة يطبعها المجهول والغموض وعدم اليقين؟

حاول الرئيس الفرنسي ماكرون منذ أيام الإجابة عن هذا السؤال في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون؛ تحدث الرئيس عن المخاطر العسكرية والاقتصادية التي قد تجعل «أوروبا تموت» أو «تتراجع» أمام القوى العظمى الأخرى؛ لأن قواعد اللعبة الدولية تغيرت ولا تستطيع أوروبا لحد الساعة فك الارتباط عن أميركا للدفاع عن حدودها.

وفي مواجهة هذا الارتباط مع أميركا، دعا الرئيس الفرنسي إلى «أوروبا قوية» قادرة على «فرض احترامها» و«ضمان أمنها» واستعادة «استقلالها الاستراتيجي». وتابع: «يجب أن نكون واضحين اليوم بشأن حقيقة أن أوروبا مهددة بالموت، ويمكن أن تموت»، مضيفاً: «الأمر يعتمد فقط على خياراتنا، لكن هذه الاختيارات يجب أن نتخذها الآن»؛ لأنه «في أفق العقد المقبل (...) هناك خطر كبير يتمثل في إضعافنا أو حتى تراجعنا»، مشيراً أيضاً إلى التدهور الاقتصادي في أوروبا مقارنة بالصين والولايات المتحدة.

وفيما يتعلق بالدفاع قال ماكرون: «لقد أظهرت الأحداث الأخيرة أهمية الدفاعات المضادة للصواريخ، وقدرات القصف في العمق (...) في مواجهة أعداء غير مقيدين. لذلك فإن ما نحتاج إلى العمل عليه هو النموذج الجديد في الدفاع». وتابع: «يجب على أوروبا أن تعرف كيف تدافع عما يعزّ عليها مع حلفائها عندما يكونون مستعدين للقيام بذلك، وبمفردها إذا لزم الأمر. لهذا السبب، ربما نحتاج إلى درع مضادة للصواريخ».

يعرف الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون جيداً أن كلام الرئيس الفرنسي، خاصة في مجال الاستقلال الاستراتيجي الدفاعي الأوروبي، غير مستقيم؛ فالاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يتخلى عن أميركا، كما أن أميركا إذا تخلت عنه قيد أنملة فستسقط أوكرانيا وسيتهاوى الاتحاد الأوروبي كما تتهاوى أوراق الخريف؛ فالحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي مجرد خيال. والذين يقتنعون بكلام الرئيس الفرنسي يؤمنون بأن أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، وهم يسلّمون بـأن الولايات المتحدة من «الحلفاء». ولكن هناك اختلافات ثقافية وجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، وأوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الاستراتيجية «لنفسها» و«التصدي للاحتكار الصيني - الأميركي المزدوج»...

وقد ظل الرئيس الفرنسي لعدة سنوات يُردد كلماته التي مفادها أن فرنسا الأكثر قوة لن تتحقق سوى من خلال أن تكون أوروبا أكثر قوة، وهو الأمر الذي ظل لعقود جزءاً من بصمة فرنسا الوراثية السياسية. وظهر موقف الإليزيه تجاه حلف «الناتو»، على سبيل المثال، متناقضاً منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف في عام 1966، وهو القرار الذي اتُّخذ نقيضه تماماً بعد 40 عاماً فحسب.

وإذا بقينا في تجربة «الناتو» فلا أخال أحداً من الدول الأوروبية بما في ذلك ألمانيا، أحد الفاعلين الرئيسيين في أوروبا، ولا دول أوروبا الشرقية، ستريد زوال هذا الحلف الأطلسي أو خروج أميركا منه. فالساكنة التي يساهم الحلف في وضع مظلة وقائية لها يزيد عددها عن 900 مليون نسمة؛ أي مجموعة ساكنة دول أعضائه، كما أن عدد التحديات في تطور مستمر، وأن دولاً كدول أوروبا الوسطى والشرقية لا تهتم كثيراً بما يقع في جنوب المتوسط أكثر من تخوفها من روسيا بعد حرب أوكرانيا وضم القرم، وتسعى جاهدة إلى أن يبقى «الناتو» بجانبهم.

حاصل القول أن الخبراء العقلانيين يعرفون مدى محدودية كلام الرئيس الفرنسي، وأنه لن يتمكن الأوروبيون من استبدال دور أميركا الحاسم بوصفها موفرة للأمن... زد على ذلك أن مناخ الأعمال بدأ يتدهور في أوروبا بشكل واضح؛ إذ تراجع المؤشر الشهري الذي يُحتسب بناء على استطلاع لآلاف الشركات في أوروبا ويعطي فكرة عن الأنشطة الاقتصادية، فأوروبا على أعتاب ركود حقيقي...

إن الأزمات الخطيرة بدأت بالفعل في أوروبا، ونهاية الوفرة أصبحت حقيقة، وهو تحول كبير يمر منه الاتحاد، وأضحى مصيره محكوماً بهذين العاملين.