قبل 44 سنة قدم المبدع زياد الرحباني مسرحية «فيلم أميركي طويل»، فجمع في عمل مميز مجريات الحرب «الأهلية» ووطأتها على اللبنانيين. تدور الأحداث في مصحة عقلية، اختار زياد موقعها في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبدا أن الإخضاع هو الهاجس، وترويض الشخص لتقبل أحواله كيفما تبدلت. أي إنه رغم الإذلال والخطر على الحياة عليه الاقتناع بوضعه، والقبول بالمجازر الطائفية والتهجير والارتهان لجهات خارجية من المحيط القريب إلى آخر الكون! وفي كل محطات تلك الحرب التي استمرت بأشكال أخرى زمن «السلم الأهلي»، ترددت دوماً عبارة «فيلم أميركي طويل»، وصولاً إلى «حتمية» طول البال رغم ما كشفته «ثورة تشرين» من حجم جرائم المافيا المتسلطة. استمر هذا المنحى رغم التفجير الهمايوني في 4 أغسطس (آب) 2020، وتكرس معه ترسخ الإفلات من العقاب وتعطلت آليات المحاسبة.
استرجع كثيرون هذه العبارة في الأسابيع الماضية ارتباطاً بما آلت إليه حرب التوحش الصهيوني على غزة، و«ميني» حروب مواكبة اندلعت على ضفافها. كذلك مع تزايد خطر حرب شاملة، لم تقع، بين تل أبيب وطهران، نتيجة براعة أداء «حائك السجاد» الأميركي هذه المرة، الممسك بكل الخيوط!
مباشرة بعد «7 أكتوبر» بدت الولايات المتحدة وكأنها انتقلت إلى المنطقة مع أكبر حشدٍ عسكري. الرئيس بايدن يشارك في اجتماع حكومة الحرب ومثله الوزير بلينكن، فيما يقود الوزير أوستن ورؤساء وأركان الجيوش الأميركية واستخباراتها تنسيقاً يومياً مع الوزير غالانت وقادة الجيش الإسرائيلي ورؤساء أجهزة الاستخبارات والأمن. وعندما تقدمت قناعة ارتباط أمن الطفل الإسرائيلي بأمن الطفل الفلسطيني، اكتُشِف مجدداً «حل الدولتين». إنه الوصفة السحرية للأمن والسلام وإنهاء التطرف من الجانبين، ومحاصرة الدور المزعزع لاستقرار المنطقة الذي يقوده النظام الإيراني تحت يافطة القضية الفلسطينية. لكن عندما يُطرح على مجلس الأمن عضوية كاملة لدولة فلسطين يواجه المشروع بفيتو أميركي، إنه الفيلم الأميركي الطويل!
بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل غرفة عمليات «فيلق القدس»، وجدت طهران نفسها أمام كأس مرة: الرد المباشر حفظاً لماء الوجه، لأنه متعذر الاستمرار بحرب الظل! وكيف يمكن ذلك من دون الذهاب إلى حرب شاملة يتوسلها نتنياهو ولا تريدها طهران وترفضها واشنطن. أسبوعان من الوعيد بالانتقام كانا الأطول في تاريخ إيران للتعبئة والتخطيط، فالتفاوض والإبلاغ عن ساعة الصفر قبل 48 ساعة، مراعاةً لمقتضيات الإخراج الأميركي. وهكذا تابع مئات الملايين ليلة متلفزة من الألعاب النارية. وبمعزل عن النتائج الصفرية، ارتاحت طهران لكونها هاجمت مباشرة العمق الإسرائيلي وهلل محورها بعد سنوات من القلق أمام تلاحق الضربات الإسرائيلية التي بقيت من دون رد. لكن إفشال الهجوم الإيراني أبرز تماهياً أميركياً أطلسياً مع إسرائيل وحمل رسالة واضحة باستحالة السماح باستهداف الدولة العبرية أو هزيمتها أو حتى تكبيدها خسائر. ومعها أخذت تل أبيب قرار الرد المنضبط تحت مظلة هندسة أميركية فلا يحرج أحداً!
اقتصر الرد الإسرائيلي على هدفٍ واحد: قاعدة رادار الدفاع الجوي قرب منشأة «ناتنز» النووية. الأرجح أن 3 صواريخ موجهة أطلقت من طائرات شبحية، فيما اعترفت طهران بأن مسيرات انطلقت من داخل إيران حلقت فوق أصفهان وتبريز وسواهما. ووصلت الرسالة الإسرائيلية: نستطيع الوصول إلى مواقعكم النووية ومراكز إنتاج المسيرات والصواريخ الباليستية! لكن ما ساد بعدها مثّل مرحلة غير مسبوقة من الإنكار الإسرائيلي والنفي الإيراني لحدوث ضربة إسرائيلية. لا، بل فقد أعلن مسؤول إيراني أن الدلائل تفيد بأن المسيرات أُطلقت من داخل إيران وأن من أطلقها متسللون وهو ما ينفي الحاجة إلى الرد!
إنه إتقان أميركي هوليوودي النكهة، نجح في فرض محاذرة الحرب الشاملة، لم يترك من دور للروس سوى تولي الوزير لافروف إبلاغ إسرائيل عبر القنوات الديبلوماسية بأن إيران لا تريد التصعيد. تظهر حجم الانكشاف الإيراني، يقابله اطمئنان إسرائيلي نسبي لترميم هالة الردع التي تضررت كثيراً بعد «7 أكتوبر». وها هو «طوفان الأقصى» وبعد 199 يوماً على حرب التوحش والإبادة، يطيح الجنرال حاليفا رئيس الاستخبارات العسكرية الذي قال «سأحمل معي إلى الأبد الألم الرهيب لذاك اليوم الأسود»!
الحرب الشاملة باتت بحكم المستبعدة، لكن الخطر محدق بالمنطقة التي يتنازع المتطرفون محاولات تسيُّدها والهيمنة عليها. وقد يكون الباب الإسرائيلي مفتوحاً لاستهداف رفح، بعدما سقطت تهديدات من نوع أن استمرار الحرب على غزة سيوسع نطاق المواجهة. والأكيد أن التدقيق بمآلات الوضع يظهر رغبة غربية لإنهاء الحرب على قاعدة استكمال تقويض قدرات «حماس» وهزيمتها. توازياً يعلن غالانت: «نقترب من ساعة الحسم في الجبهة الشمالية». أما غانتس فيعد إسرائيليي الشمال بـ«عودة آمنة قبل بدء العام الدراسي».
في الأفق خطر حرب واسعة مدمرة على لبنان قد تطاول «فيلق القدس» في أماكن تمركزه في سوريا. إنه المنحى الأكثر ترجيحاً تؤكده التحذيرات الغربية والإسرائيلية لاستمرار «المشاغلة» وتداعياتها، وبقاء القدرة على «7 أكتوبر» جديد من الشمال. تطور رجّح عودة مفاجئة لآموس هوكشتاين، عنوانها نزع فتيل التوتر والممر إليه التنفيذ للقرار الدولي 1701.
ستقلم حرب غزة أظافير طهران فلسطينياً، لذلك تتطلب أولويتها لإعادة تشكيل التوازنات، استمرار جبهات «المواكبة»، ما كرّس لبنان «ميدان» في جبهة مفتوحة علّ ذلك يوفر غطاء تقاسم خطير للنفوذ. لافت هنا إعلان نعيم قاسم: «السلاح باقٍ ومتقدم ويصنع المستقبل»(...)، وعن هذا المستقبل تكشف «الأخبار» الارتياح للتفاوض بين هوكشتاين وبري لأن هدفه: «الوصول إلى سلة متكاملة تفضي إلى استقرار أمني وسياسي واقتصادي في لبنان».
إنها الصفقة المريبة: حراسة أمن شمال إسرائيل مقابل تشريع تسلط «حزب الله» ومن خلفه طهران. محطة صفقة في فيلم مكرر، يقابلها انعدام مسؤولية بقية أطراف نظام المحاصصة المنشغلين بمعارك نقابية بلدية دونكيشوتية لإقناع مريديهم أنهم يتنفسون وما زالوا على قيد الحياة!