من ينظر إلى البيئة الأمنية الدولية في السنوات الأخيرة، فسيخرج بقناعة مفادها أن سماتها الأربع: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض. هي سمات حقيقية تطبع هاته الأزمنة أكثر من أي وقت مضى، وتجعل الخبراء الاستراتيجيين في بعض الأحيان في حيرة من أمرهم عندما يريدون تشخيص الحاضر وتوقع المستقبل للتأثير فيه أو تجنب ويلاته من خلال إعداد العدة أو الدخول في عالم التفاوض المتعدد الأطراف حفاظاً على الأنفس والممتلكات... أكتب هذا الكلام انطلاقاً من واقعة حدثت منذ سنوات، كان صاحبها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهي واقعة كفيلة بملء المئات من الصفحات في مجال العلاقات الدولية وبتجويد كتب الاستراتيجية وبتطعيم أفكار المنظرين والخبراء الاستراتيجيين. قبل نشوب الحرب في أوكرانيا، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريح عن «الموت السريري» للحلف الأطلسي، في مقابلة كانت قد نشرتها له مجلة «ذي إيكونومست»، ذائعة الانتشار، وهو ما أثار في وقته ردود فعل مباشرة وقوية حتى من أكبر حلفائه، وأعني بذلك ألمانيا، إذ انتقدت المستشارة الألمانية آنذاك، أنجيلا ميركل، هذا الحكم «الراديكالي»، وقالت في مؤتمر صحافي مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ: «لا أعتقد أن هذا الحكم غير المناسب ضروري، حتى لو كانت لدينا مشكلات، حتى لو كان علينا أن نتعافى». أما موسكو فرحبت طبعاً بتصريحات ماكرون على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية التي كتبت على صفحتها في موقع «فيسبوك»: «إنّها كلمات من ذهب. إنه تعريف دقيق للواقع الحالي لحلف شمال الأطلسي».
أما الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترمب، فانتقد بدوره تصريحات نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقال إنها «سيئة» و«مهينة» و«شديدة الخطورة». وعدّ أنه «لا أحد يحتاج للناتو أكثر من فرنسا»...
في تلك الفترة، كانت قناعة الرئيس الفرنسي، ومعه العديد من المسؤولين الغربيين، أنه لا يمكن التعويل على الأميركيين بوصفهم ضامناً للأمن الأوروبي. لذا كان يريد رسم استراتيجية تتبنى ضرورة أخذ الأوروبيين مسألة الدفاع بأيديهم، وإلا فسيهددهم التهميش الجيوسياسي وستصل المجموعة الأوروبية إلى ما لا يمكن أن يحمد عقباه؛ وشرح ماكرون استراتيجيته في تلك الفترة، قائلاً إنه يجب أن تكون أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل أميركا والصين.
تصريحات الرئيس الفرنسي هاته قيلت قبل التدخل الروسي في أوكرانيا؛ لأنه لم يكن يتنبأ بمثل هذا التدخل العسكري، وكانت النظارة الاستراتيجية الفرنسية، بل وحتى الأوروبية، محدودة وفيها خلل تقني في بيئة أمنية كان على الفاعلين فيها تملك الذكاء والعبقرية الاستراتيجيين؛ والدليل على ذلك أنه بعد التدخل الروسي في أوكرانيا لم يعد الرئيس الفرنسي يتحدث عن السيادة الأوروبية في مجال الدفاع، ولا عن الموت السريري للحلف الأطلسي، وكل الدول الأوروبية هرولت إلى الحماية الأميركية في ظل حلف الناتو، ولولا مساعدة الأميركيين لها لكانت النتائج الأمنية عليها مغايرة ولصالح روسيا؛ والكل يريد أن يظهر اليوم، بما في ذلك فرنسا، في صورة حلف أطلسي متحد، وأنه إلى جانب الأزمة الأوكرانية فإنهم متفقون على كل شيء...
وبمعنى آخر، يمكن عدّ تصريحات الرئيس الفرنسي في تلك الفترة غير استراتيجية وغير حكيمة وهو ما جسدته تبعات الحرب في أوكرانيا وسعي دول أخرى في تغيير سياساتها الدفاعية مثل ألمانيا، ناهيك من التحاق دول أخرى بالحلف، وأعني بذلك السويد وفنلندا.
فمنذ أيام، أصبحت السويد العضو الثاني والثلاثين في حلف الشمال الأطلسي بعد رفع علمها أمام مقر الحلف في بروكسل، وبعد مفاوضات صعبة مع عدد من أعضاء الحلف وبالأخص مع تركيا والمجر، وبعد أكثر من مائتي سنة من الحياد وعدم الانحياز؛ وهي لم تشهد أي حرب منذ نزاعها مع النرويج سنة 1814 وفضلت الارتماء في أحضان الدول المسالمة والابتعاد عن أي تحالف عسكري خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي.
وقبلها انضمت فنلندا إلى الحلف لتصبح الدولة الإسكندنافية التي تتشارك مع روسيا حدوداً بطول 1300 كيلومتر؛ ومثل السويد فإن انضمام فنلندا إلى الحلف بمثابة نقطة تحول تاريخية لها؛ فهي التي دافعت لعدة عقود عن سياسة عدم الانحياز العسكري لأي طرف...
وقد خضعت فنلندا للسيطرة من قبل جارتها لمدة قرن حتى اندلاع الثورة الروسية في 1917. منذ تلك الفترة، تواجهت روسيا مع البلد الشمالي مرتين، (1939 - 1940) و(1941 - 1944)، لكن فنلندا خسرت كلتيهما؛ وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت فنلندا موقف الحياد، الذي تطور لاحقاً نحو مبدأ عدم الانحياز عسكرياً إثر انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً.
ولطالما عدت هذه السياسة حماية تجاه روسيا، خوفاً من صراع جديد مع جارتها، ولكن مع الحرب في أوكرانيا، تطورت الاستراتيجيات الحربية وبدأ ينظر إلى الحلف بوصفه مصدر أمن شبه موثوق فيه...
وسيزيد الطول الإجمالي للحدود بين روسيا والحلف الدفاعي بمقدار الضعف تقريباً؛ وستستفيد استوكهولم وهلسنكي من الحماية التي يوفرها البند الخامس من ميثاق الناتو الذي ينص على أنه إذا تعرضت دولة عضو لهجوم مسلح، فإن الدول الأخرى ستعد هذا العمل هجوماً مسلحاً موجهاً ضد كل الأعضاء وستتخذ الإجراءات التي تعد ضرورية لتقديم المساعدة للبلد المستهدف.
لم يكن أحد يتوقع ما كان سيجري في أوكرانيا، ولا أحد يمكن أن يعطيك معطيات دقيقة لما يمكن أن يقع في المستقبل، وماذا لو تغيرت إدارة الرئيس بايدن، ورجع ترمب إلى البيت الأبيض، وهي أمور ممكنة؛ ولكن مع ذلك يبقى عمل الاستراتيجي عملاً ناجحاً إذا فهم طبيعة البيئة الاستراتيجية، وبنى استراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها، ولا يستسلم للأطراف الأخرى، أو للمصادفة. ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض.