عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

غزة... واليوم الأهم في وستمنستر

استمع إلى المقالة

تقديم مشروع الميزانية للمجلس الذي يمثل الشعب، لا يقل في أهميته عن يوم الانتخابات العامة في معظم بلدان الديمقراطيات البرلمانية، أما في بريطانيا فهو اليوم الأهم طوال العام.

الأربعاء الماضي، كان اليوم الأهم في أم البرلمانات، فالمنصب المعروف الآن بوزير المالية (والاقتصاد والمعاملات التجارية والبنكية والنقدية والضرائبية وموازنة الخزانة العامة - إذا جمعنا المهام والوزارات التحتية) يسبق منصب «رئيس الوزراء» بخمسمائة عام توسعت فيها الصلاحيات وأضيفت خلالها المهام التي أشرنا إليها.

الاسم الرسمي لوزير المالية ترجمته الحرفية «مستشار المربعات المتقاطعة» chancellor of the exchequer (إيشيكيه بالفرنسية كلوحة الشطرنج) من شكل غطاء المكتب الذي وضعت فوقه الحسابات وما يمثل نقد أو ميزانية الدولة لأول مرة في عام 1221 وكان مكتب غودفري غيفد (تكتب غيفرد) (1235-1302) لأنه كان «اللورد مستشار الدولة» (لا يزال المنصب موجوداً وهو مسؤول عن السلك القضائي) وكان أيضاً أسقف وريستر في عهد الملك هنري الثالث (1207-1272). أما منصب رئيس الوزراء فلم يؤسس إلا في 1721 ومعه منصب اللورد الأول للخزانة. قبل ذلك كان يتناوب إدارة الخزانة مفوضية منذ 1707 تحت رئاسة اللورد الأول لتقوم بأعمال وصلاحيات مستشار المعاملات المالية، وأيضاً يتخذ القرارات السياسية لأنه كان تقليدياً رئيس الأغلبية البرلمانية. وتم تثبيت المفوضية في 1714 «كمفوضية اللوردات للخزانة» (ستة لوردات مفوضين «لإدارة خزانة جلالة الملك») ولذا يسمى وزير المالية باللورد الثاني للخزانة، كي يظل رئيس الوزراء اللورد الأول، اتباعاً للتقليد الذي أسسه أول من حمل اللقبين قبل ثلاثة قرون السير روبرت والبول (1676-1745)، خاصة وأن شاغل المنصب هو رئيس حكومة الملك بتفويض من التاج، وبالتالي فهو صاحب القرار السياسي المهيمن على سياسات كل الأقسام والوزارات الأخرى.

تاريخ المنصبين والعلاقة بينهما جعل اليوم الأهم في الأجندة السياسية السنوية في بريطانيا تقليدياً أن يكون اليوم الأهم في الأسبوع السياسي البرلماني، الأربعاء، يوم المساءلة الأسبوعية لرئيس الوزراء الذي يجلس بجواره وزير المالية، وبدوره يقدم مشروع الميزانية فور انتهاء مناقشة رئيس الحكومة.

ويذكر قراؤنا، تطرقنا لأولويات الساسة كانعكاس لأولويات الناخب، لأن الوزراء وأصحاب القرار نواب برلمان ويلتقون الناخب في الدائرة باستمرار، ويطالعون الصحيفة المحلية، وبالتالي تنعكس مطالب وحاجات مواطنيهم في مداخلاتهم وأسئلتهم.

خارج البرلمان، كالعادة في اليوم الأسبوعي الأهم، تكون هناك بعض المظاهرات (محدودة العدد في معظم الأحوال لكن عالية الصوت بالميكروفونات ومضخمات أصوات الآلات الموسيقية)، لكن في الأسابيع الأخيرة كانت مظاهرات حملة التضامن مع فلسطين (يعود تأسيس الحملة إلى 2004)، والتيارات والحركات الأخرى التي تصاحب مسيراتهم، هي الأكثر ملاحظة والأعلى ضجيجاً سواء بالهتافات أو الموسيقى، ولا يفلت نائب أو صحافي برلماني من سماعها، خاصة في الأروقة الموصلة بين أقسام مبنى قصر وستمنستر العريق وهي مبنية من الأحجار وعالية السقف تتردد فيها الموجات الصوتية وتسمع بوضوح، الهتافات بالطبع المقصود بها أن تصل أسماع النواب، لتنبههم إلى المطالب أو المظالم لطرحها في البرلمان.

يوم الأربعاء استمرت مساءلة رئيس الوزراء ريشي سوناك ومنازلته الكلامية مع زعماء المعارضة لست وثلاثين دقيقة، تلاها تقديم وزير المالية جيرمي هنت مشروع الميزانية، لمدة ساعة، فمناقشة لساعتين. معظم مداخلات النواب لرئيس الحكومة، ولوزير المالية متعلقة بأولويات ناخبيهم المحليين، وأخرى عن الاقتصاد والخدمات العامة. لا أسئلة سياسة خارجية، باستثناء نائب طالب بمزيد من السلاح لأوكرانيا، والسلاح ينتج في مصنع في دائرته الانتخابية، مضيفاً أن زيادة الإنتاج تخلق فرص عمل لناخبيه ورواجاً اقتصادياً في المنطقة.

لم تكن هناك أية أسئلة بشأن حرب غزة أو إيصال المعونة والأدوية إلى المدنيين، رغم هتاف المحتجين أمام البرلمان، والرسائل إلى النواب مطالبة بالسعي لوقف عاجل لإطلاق النار.

«غزة» ذكرها وزير المالية مرة واحدة «نحزن لمأساة فقدان الأرواح في إسرائيل وغزة» في بداية تقديم مشروع الميزانية. ملاحظتنا من منصة الصحافيين، أنه غالباً أضاف العبارة إلى الخطاب على عجل، لأنها خارج السياق، فليس في بنود الميزانية ما يتعلق بغزة؛ وبقية العبارة «ورئيس الحكومة شدد على مكافحة التطرف، ومعالجة أية انقسامات في المجتمع».

أيضاً جاءت مباشرة قبل بند تخصيص مليون جنيه إسترليني ميزانية لنصب تذكاري للمسلمين «الذين ضحوا بحياتهم من أجل الديمقراطية والحرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية»، استجابة لاقتراح من النائب المسلم ساجد جويد (كان وزيراً سابقاً للمالية والصحة)، ومعروف بموقفه المتشدد من المتطرفين والتنظيمات الإرهابية. واستخدم صلاحيات استثنائية عندما كان وزيراً للداخلية في 2019 لنزع الجنسية البريطانية عن شميمة بيغوم، التي هربت من أسرتها والتحقت في 2015 بتنظيم «داعش» في شمال سوريا.

الملاحظة الأخرى أنه بالنسبة لبلدان الديمقراطيات البرلمانية، خاصة في أعوام الانتخابات هناك ترتيب للأولويات: فمهما بلغ الاهتمام العالمي أو اهتمام تيارات النشاط السياسي بقضية وراء الحدود، فلن تدرج في قائمة أعمال البرلمان المشرع للقوانين إلا إذا كانت بالفعل من أولويات الناخب أو يراها تؤثر بشكل فاعل على مصالحه وخياراته.