لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

إسرائيل وتناقضات الحل الكولونيالي ــ الإمبريالي للمحرقة

استمع إلى المقالة

الإمبريالية بمعناها العلمي الدقيق تعني أي سياسة تقوم بها دولة أو أمة معينة لتوسيع تأثيرها، سواء عن طريق مستعمرات أو دول تابعة أو متحالفة أو غيرها، وقد تستعمل هذه الدولة/الأمة القوة الناعمة أو القوة العسكرية أو هما معاً بمعية القوة الاقتصادية والمالية لحماية وتطوير هذا التأثير، خصوصاً في وجه الأعداء والخصوم والقوى المعادية (الموسوعة البريطانية).

أما الكولونيالية أو الاستعمار فهو السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية على دولة أخرى أو شعب آخر، والهدف منها هو استخراج موارد وخيرات الدول والأراضي المستعمَرة لصالح القوى المستعمِرة.

وقد يختفي الاستعمار وراء آيديولوجية «تحضير الشعوب الأخرى»، لكنه يبقى في كنهه ذا أبعاد اقتصادية محضة قوامها استغلال موارد الشعوب المستعمَرة.

في 5 يونيو (حزيران) 1986 قال السيناتور الأميركي آنذاك جون بايدن أمام الكونغرس الأميركي: «إن إسرائيل لو لم تكن موجودةً لأوجدناها نحن لحماية المصالح الأميركية»، أي أن إسرائيل من وجهة نظر من سيصبح نائباً للرئيس أوباما ورئيساً للولايات المتحدة بعد أربع وثلاثين سنة من هذا التاريخ هي أداة لصون وحماية الإمبراطورية داخل منطقة حيوية بالنسبة للمصالح الاقتصادية والجيواستراتيجية الأميركية.

و«الإمبراطورية» كانت مفهوماً مُضْمَرًاً في الأدبيات السياسية الأميركية إلى أن انتصر له المحافظون الجدد في عهد بوش الابن، أي بداية القرن الواحد والعشرين. آنذاك لم يتوانَ المحافظون الجدد في ترديد مقولة «الإمبراطورية» كمحدد أساسي للسياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً في خضم الحرب على أفغانستان والعراق. هكذا فالهيمنة الأميركية بالنسبة إليهم هي تجسيد لنوع من «الإمبراطورية الناعمة» التي تلتقي بموجبها مصالح أمريكا وترسانتها العسكرية وقوتها الصناعية والمالية بمصالح العالم، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي (دايفيد كوردون، «الخلط الخاطئ بين الهيمنة والإمبراطورية: المحافظون الجدد، بوش والإمبراطورية الديمقراطية»، «المجلة الدولية»: 61 (1)، 2006، ص 227-241).

تقول نعومي كلاين، الصحافية اليهودية والباحثة، وصانعة الأفلام، إن الغرب لم يكن يرغب في اليهود ولهذا «تم حل مشكلة (اليهود) من خلال نقلها مكانياً إلى فلسطين» (إنستغرام، حساب جلنجلوند). تم تصور هذا، دائماً حسب كلاين، على أنه «تعويض» ولكنَّه «تكرار» للتجربة الكولونيالية. «علينا أن نعترف بأنَّ إسرائيل تأسست على أساس الصدمة. إنها عبارة عن نسخة من الاستعمار الاستيطاني، وأيضاً تكرار جديد له لأنه يُنظر إليها على أنها تعويض للإبادة الجماعية» (المصدر نفسه). التناقض الأساس في مشروع إسرائيل هو أنها «تعويض» عن الإبادة، وفي الوقت ذاته هو مشروع استيطاني يقتضي نوعاً من التطهير العرقي ضد الفلسطينيين لتجسيد هذا التعويض.

وهذه العملية تتم بقيادة وريادة من أوروبيين بيض (يهود وصهاينة وغيرهم) ينتقلون إلى فلسطين ويؤسسون لفكرة هرتزل وبلفور بَعْدَهُ على أساس عرقي وإثني محض. لهذا توحي كلاين دون أن تشير إلى ذلك صراحة على أن إسرائيل هي تكرار لـ«مهمة الرجل الأبيض»، «التحضيرية» الصعبة التي تكلم عنها الشاعر الكولونيالي إدوارد كيبلينغ. غير أنَّ إسرائيل لم تكن ترغب في «تحضير الفلسطينيين»، ولكن في خلق بديل إثني، تاريخي وثقافي لهم.

ولكن إسرائيل كنتاج لنوع جديد من الاستعمار الاستيطاني لم تكن فقط مبنيةً على فكرة عنصرية، ولكن على نوع من الدور المركزي في المشروع الإمبريالي. لهذا فكلام بايدن في يونيو (حزيران) 1986 له أهمية قصوى: إنها أداة لتجسيد الحلم الإمبريالي في وضع كيان يرتبط ثقافياً وسياسياً وعسكرياً بالغرب، ولكنه يخدم مصالح الغرب في الشرق الأوسط. هكذا نفهم الارتباط الوثيق الموجود بين فكرة إسرائيل ومصالح الغرب في المنطقة. إنها استمرار للإمبراطورية بوسائل أخرى.

ولكن المشروع لا يجد تناقضاته فقط في أن «التعويض عن الإبادة» يقتضي تطهيراً عرقياً عنصرياً وصل أوجه في احتمال الإبادة في غزة (حسب رأي محكمة العدل الدولية 26 يناير/كانون الثاني 2024) فحسب. بل إنَّ الجانب «التحضيري» المحتمل والمضْمر (إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط) لا يتماشى إلا اعتباطياً مع الحمولة التوراتية للخطاب حول «أرض الميعاد». هل المشروعية ديمقراطية أم إنجيلية ميثولوجية؟ قبول الخطاب الغربي بالمصدرين معاً يخلق لُبْساً فكرياً وسياسياً لم يعد مقنعاً الآن مع تعالي الأصوات والحركات المناصرة لفلسطين عبر العالم.

أضف إلى هذا وجود ثلاث وجهات نظر صهيونية غير متجانسة، لكنها متعايشة مؤقتاً، خصوصاً في وقت يواجه فيه المشروع أزمةً حقيقيةً ضربت مشروعيته وأسسه في العمق. ورثة مشروع هرتزل القائل بإيجاد أرض لليهود الهاربين من بطش الأوربيين قبل الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء لا يهمهم البعد التوراتي بقدر ما يهمهم المشروع السياسي والاقتصادي. هؤلاء هم «الصهاينة العلمانيون» الذين لا يهمهم البعد الديني للقضية، وقد لا يتفقون مع هستيريا الاستيطان والاحتلال إلا لغاية الأمن ودعم قوة الدولة ومناعتها.

أمَّا الصهاينة التوراتيون (أتباع الحاخام أبراهام إسحاق كوك 1865-1935) فهم يرون في إسرائيل امتداداً للأرض الموعودة من الرب لبني إسرائيل منذ الألفية الأولى قبل الميلاد. من منظور هؤلاء فالاستيطان والاحتلال واجب ديني لتحقيق الحلم على كل أرض إسرائيل، بما فيها يهودا والسامرة (أي الضفة الغربية والقطاع).

وأخيراً هناك «الصهاينة المسيحيون»، وهم ليسوا موجودين بالضرورة داخل إسرائيل، ولكنهم يؤمنون بفكرة إسرائيل كأرض من النهر إلى البحر، لا حُبّاً في اليهود، ولكن لخلق الشروط الموضوعية لعودة «المسيح المنتظر»، حسب الإنجيل، خصوصاً في متون مَتَّى ولوقا ويوحنا وكذا في كتاب «الوحي». هذه الرؤى المختلفة للصهيونية لا يمكن أن تكون دون فصل عنصري ودون تطهير عرقي ودون نفي للآخر؛ أي دون العملية الاستعمارية/الاستيطانية، التي أصبحت ملازمة للوجود السياسي والتاريخي لدولة إسرائيل.

هل من الممكن وجود إسرائيل دون استيطان؟ ربما عبر حل الدولتين. أو الدولة الواحدة، الذي هو حلم البعض في اليسار الإسرائيلي والمناضلين الحقوقيين في أواسط عرب 1948 وبعض الحركات الحقوقية والسياسية والفلسطينية، التي تقول بالدولة الواحدة، الديمقراطية، المتعددة الأجناس والأديان. غير أن هذا الحلم، وفي ظل تنامي التطرف لدى المجتمع الإسرائيلي واضطرار الفلسطينيين للاصطفاف وراء حركات المقاومة المسلحة، يبقى بعيد المنال. التقتيل ومظاهر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل يومياً في غزة ومنذ عدة شهور، إذا أضفناهما إلى الاستيطان والفصل العنصري في الضفة الغربية، يعني أن منطق العنف المبني عليه المشروع الاستعماري/الاستيطاني لإسرائيل ما زال قائماً.