ديفيد بروكس
TT

أميركا والاختلال السياسي!

استمع إلى المقالة

أميركا مزدهرة اقتصادياً ولكنها مختلّة سياسياً. لديها الموارد المادية والتكنولوجية والعسكرية لتظل القوة العظمى الرائدة في العالم، ولكن الكونغرس الحالي غير قادر على اتخاذ قرارات بشأن القضايا الأساسية؛ مثل كيفية إصلاح نظام الهجرة، أو الدور الذي ينبغي أن تلعبه في العالم.

ماذا عليها أن تفعل لتصحيح هذا الوضع؟ حسناً، الكثير من الأشياء، لكن أحدها هو: كثير من الأميركيين يجب أن يتبنى فكرة، طريقة تفكير أساسية لكونه مواطناً في دولة ديمقراطية.

تُعرف هذه الفكرة بتعددية القيم. وترتبط هذه الفكرة ارتباطاً وثيقاً بالفيلسوف البريطاني أشعيا برلين، وتستند إلى فرضية مفادها أن العالم لا يتناسب بعضه مع بعض بشكل جيد. الجميع يريد البحث عن مجموعة متنوعة من السلع، ولكن من المؤسف، هذه السلع يمكن أن تكون في حالة توتر؛ بعضها مع بعض. على سبيل المثال، قد يرغب البعض في استخدام الحكومة لجعل المجتمع أكثر مساواة، ولكن إذا فعل ذلك، فسوف يتعين عليه توسيع سلطة الدولة إلى حد كبير، بحيث تؤثر على حرية بعض الناس، وهو «خير» تؤمن به أميركا أيضاً.

كما لاحظ مؤخراً دامون لينكر، الذي يُدرّسُ فصلاً عن فلسفة أشعيا برلين وآخرين في جامعة بنسلفانيا، فإن هذه الأنواع من التوترات شائعة في حياة الأميركيين السياسية: الولاء لمجتمع معين مقابل التضامن العالمي مع البشرية بأسرها، واحترام السلطة مقابل الاستقلال الذاتي الفردي، والتقدم الاجتماعي مقابل الاستقرار الاجتماعي. وأود أن أضيف أن هذه الأنواع من التوترات منتشرة بين الأفراد أيضاً: الرغبة في الانخراط بالمجتمع مقابل الرغبة في الحصول على المساحة الشخصية للقيام بما تريد، والرغبة في البروز (التميز) مقابل الرغبة في التكيف (التأقلم)، وصرخة العدالة مقابل صرخة الرحمة.

إذا اختار البعض سلعة واحدة، فإنه يضحي بقطعة من سلعة أخرى. والحقيقة المأساوية بشأن الحالة الإنسانية هي أن كثيراً من الخيارات ينطوي على الخسارة. يوماً بعد يوم، تكمن الخدعة في معرفة الاستعداد للتضحية به من أجل الخير (الصالح) الأكثر أهمية.

بالتأكيد، هناك بعض المناسبات التي يكون فيها الصراع بين الخير والشر حقاً: الحرب العالمية الثانية، وحركة الحقوق المدنية، والحرب الأهلية. وكما قال لينكولن، إذا لم تكن العبودية خاطئة فلا شيء خطأ. ولكن هذه المناسبات أكثر ندرة مما يُتصور.

أعتقد أن البعض يكره دونالد ترمب بقدر ما يكره الرجل التالي، ولكن الشعبوية الترمبية تمثل بعض القيم المشروعة للغاية: الخوف من التجاوزات الإمبراطورية، والحاجة إلى الحفاظ على التماسك الاجتماعي وسط الهجرة الجماعية، والحاجة إلى حماية أجور الطبقة العاملة من ضغوط العولمة.

الصراع ضد ترمب الرجل صراع بين الخير والشر، بين الديمقراطية والسلطوية النرجسية، ولكن الصراع بين الليبرالية والشعبوية الترمبية بمثابة مباراة مصارعة حول كيفية الموازنة بين المخاوف المشروعة.

كان لدى أشعيا برلين كلمة للناس الذين يعتقدون أن هناك حلاً صحيحاً واحداً لمشاكلنا، ولذا يجب أن نفعل كل ما هو ضروري من أجل فرضها: الأحادية. وُلد أشعيا برلين في روسيا ما قبل الثورة، وبلغ رشده في ثلاثينات القرن العشرين، عندما كانت هناك فلسفتان أحاديتان في المجال العام: وهما الماركسية والفاشية. وزعموا أنها آيديولوجيات تشرح كل شيء وتعد تماماً بوضع نهاية مطلقة للمشاكل السياسية.

اليوم تتخذ الأحادية هيئة هؤلاء المنتشرين على اليسار أو اليمين الذين يرون في كل الصراعات السياسية أنها صراعات خيرة وشريرة بين الطغاة والمظلومين. يصف اليسار هذه الصراعات بأنها «المُستعمِر» مقابل «المُستعمَر». ويصف اليمين الترمبي هذه الصراعات بأنها النخب الساحلية أو العلمانيين أو الماركسيين الثقافيين. لكن كلا الجانبين يتمسك بالوهم بأنه يمكن للبعض حل مشاكله إذا قام فقط بسحق الأشرار.

التعدديون يقاومون هذا النوع من الأخلاق المانوية. يبدأون بالفرضية القائلة إن معظم الفصائل السياسية في مجتمع ديمقراطي يحاول السعي إلى تحقيق نهاية طيبة. السؤال الصحيح ليس من هو الخير أو الشر. إنما السؤال الصحيح هو ما التوازن الذي يتعين تحقيقه في ظل هذه الظروف؟

في ثمانينات القرن العشرين، اعتقد البعض أن مصدر القلق الرئيسي كان التصلب الاقتصادي، وأن سياسات ريغان - ثاتشر، بما في ذلك خفض الضرائب، كانت الاستجابة الصحيحة. الآن يعتقد أن القلق الرئيسي هو عدم المساواة والتبعثر الاجتماعي، ويعتقد أن سياسات بايدن، بما في ذلك زيادة الضرائب، هي الاستجابة الصحيحة.

يعتقد التعدديون بأن الصراع جزء أبدي من الحياة العامة - وسوف نناضل دائماً حول كيفية تحقيق التوازن بين السلع المتنافسة - لكنه صراع من نوع محدود، أي نقاش بين الوطنيين، وليس مباراة مميتة بين أبناء الضياء وأبناء الظلام. وفي رأي الكثيرين، من المفترض أن يكون الكونغرس هو المكان الذي يتم فيه تحقيق مثل هذا النوع من التوازنات، والمكان الذي يلتقي فيه مختلف ممثلي الولايات من أجل الموازنة بين المصالح والتوصل إلى حلول وسط. وليس من المفترض أن يكون مكاناً يُدمر فيه الممثلون تسويات الحلول الوسط حتى يمكنهم الظهور في التلفزيون، وهم يتخذون موقفاً عقائدياً خالصاً.

إن التعددية عقيدة تستحث التواضع (حتى بين المثقفين، الذين لا يحبذون الفضيلة). لا يعتقد التعددي أبداً أنه يمتلك الحقيقة، وأن كل الآخرين يعيشون في خطأ. والتعددي بطيء في التأكيد على اليقين، مع العلم أن حتى هؤلاء الذين ينبذونه بشدة ربما كانوا على حق جزئياً. ولقد قال أشعيا برلين ذات مرة: «أشعر بالملل من قراءة الأشخاص المتحالفين».

لقد بذل أشعيا برلين جهوداً مضنية للقول إن التعددية ليست نسبية. إنه ليس الاعتقاد بأن الجميع يحصل على حقيقته الخاصة. إنه الاعتقاد بأن الحقائق الموضوعية موجودة، ولكن مما يُؤسف له، في الحياة السياسية، أنها لا تتناسب مع المُجمَل الخالي من الاحتكاك.

كان أكثر إثارة للاهتمام عند الكتابة عن أشخاص معينين - مثل مكيافيلي أو تشرشل - مقارنة بالكتابة عن الأفكار المجردة. وهذا يُجسد شيئاً إنسانياً عميقاً حول نظرته للعالم: إنه في الوسط يوجد دائماً الباحث، الذي يُصارع المفارقات والتناقضات، يحاول دائماً بتعاطف تفهم عقول الآخرين، ويحاول دائماً الحفاظ على هدوئه واتزانه في حين أن الآخرين يفقدون أعصابهم.

زعم أشعيا برلين أنه إذا كانت هناك مجموعة نهائية من الحلول، أو «نمط نهائي حيث يمكن ترتيب المجتمع من خلاله»، فإن «الحرية سوف تُصبح خطيئة». ولكن لا توجد إجابات نهائية صحيحة عن الأسئلة السياسية، وعليه، فإن التاريخ يظل عبارة عن حوار بلا نهاية.

يكافئ كثير من الناخبين الأميركيين الساسة الذين يقدمون لهم حرباً مقدسة. إذا كان هناك مزيد من التعددية، لتم اختيار مزيد من الأشخاص المهتمين بتحسين الحياة تدريجياً وبشكل مطرد.

* خدمة «نيويورك تايمز»