أظن أنَّ القارئ اعتقد أنني في حديثي عن الموقف المسيحي الرافض لإطلاق العقاد صفة العبقرية على السيد المسيح في الطبعة الأولى من كتابه «عبقرية المسيح»، قد حدت عن موضوعي الأساسي وابتعدت عنه كثيراً. وموضوعي الأساسي كان مناقشة تفسير رجاء النقاش وتفسير لويس عوض قبله لاتجاه محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في الإسلاميات بعد أن قمت بعرض تفسيريهما. وسيتَّضح للقارئ الآن أنني لم أحد عن موضوعي الأساسي ولم أبتعد عنه كثيراً.
يقول رجاء النقاش في رده على لويس عوض: «وقد هُوجم العقاد وما زال يهاجم كثيراً، لأنَّه اعتبر النبي عبقرياً والعبقرية من صفات البشر وليست من صفات الأنبياء والمرسلين».
فلنتحقق من صحة حكمه هذا.
في كتاب للشيخ محمد الغزالي، صدرت طبعته الأولى عام 1951، كان عنوانه «عقيدة المسلم»، والشيخ الغزالي كان في ذلك الوقت المنظر الرئيس لجماعة «الإخوان المسلمين»، قال: «إن الكتّاب الذين ألّفوا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم ووصفوه بالعبقرية يمكننا أن نقبل منهم هذا الوصف بحذر وبقدر. نقبله إذا كان القصد منه كشف النقاب عن معالم العظمة الشخصية وإلقاء ضوء على البطولة الأدبية لأولئك المصطفين الأخيار. ونقبله إذا كان القصد منه الاعتراف بمبدأ الوحي الذي يصل المادة بما وراء المادة. وهذا هو أساس النبوة الأول. ونرفضه إذا كان وصفاً لعظمة إنسانية معتادة تسلك صاحبها مع غيره من رجال التاريخ البارزين. ذلك موقف المسلم من جمهرة المؤلفين والمؤرخين ممن كتبوا في حياة النبي الأمين».
إن الشيخ الغزالي يومئ إلى كتاب العقاد «عبقرية محمد» بطريقة غير مباشرة. وهذه الإيماءة فيها شيء من التعمية. ويتكلم عن الكتاب وعن صاحبه بوضع افتراضات فيها كثير من التحوط والتحرّز حتى لا يجزم برأي قاطع حول عقيدة العقاد الدينية، تزكيةً أم قدحاً. وكما نرى، فليس في كلام الشيخ هجوم أو تهجم على العقاد في كتابه «عبقرية محمد».
إن العقاد أصدر كتابه «عبقرية محمد» عام 1942، ولم يغير في هذا العنوان ولم يحوّر فيه، في حين أنه اضطر لأن يغير عنوان كتابه «عبقرية المسيح» إلى عنوان مختلف بعد خمس سنوات هو «حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث» في طبعته الثانية، استجابةً للرفض الديني المسيحي لوصف السيد المسيح بصفة العبقرية. فعل هذا رغم أنه مطبوع على العناد والمكابرة والصلف.
إنَّ أولَ هجوم إسلامي أصولي على فكر العقاد الإسلامي جاء بعد سنوات على وفاته، وذلك في كتاب «الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم» لغازي التوبة، الصادر في طبعته الأولى عام 1969.
في هذا الكتاب هاجم - أولاً - محمد عبده ومالك بن نبي. وهاجم - ثانياً - طه حسين والعقاد. وهاجم - ثالثاً - تقي الدين النبهاني، ومجّد حسن البنا. وكان قصده من هذا التمجيد تقديم فكره على أنه الفكر البديل لفكر هؤلاء جميعاً على اعتباره - في رأيه - أنَّه يمثل أجلى صورة لنصوع الفكر الإسلامي القويم وأعلى مراحل استقامته. وقدم فيما كتبه عنه دعوة «الإخوان المسلمين» على أنَّها الدعوة الإسلامية الصحيحة التي لا عوج فيها ولا شبهة. ورأى أنَّه مع البنا استوى الفكر الإسلامي، وأخذ امتداده الأعظم على يدي سيد قطب ومحمد قطب.
لم يعترض غازي التوبة إسلامياً على وصف النبي محمد بالعبقرية. فنص ما قاله في هذا الصدد هو: «وقد جعل العقاد من عبقرياته الإسلامية وغير الإسلامية حقلاً لتطبيق نظرياته في الفرد، وشاهداً على دوره الفعال في المجتمع والتاريخ. وقد يتأثر – خلال دراساته – ببعض الاتجاهات الفكرية الأوروبية التي تضخم الفرد والمواهب الفردية. وربما صح تطبيق نظرياته على العبقريات الغربية، كفرانكلين وباكون، ولكنه اعتسف على الحقيقة في عبقرياته الإسلامية، وما ذلك إلا أنه أراد أن يقولب الشخصيات ضمن نظرياته الجاهزة في الفرد والطبائع الفردية، فجاءت جملة من الفتوق في الغالب، وحزمة من المزوق في الشخصية».
إنه يقر مع العقاد لنبيه محمد بالعبقرية في مجالات عدة، وذلك في قوله: «محمد عبقري في كل المجالات، في كل الأمور، في الشؤون العسكرية، في الإدارة، في الحكم، في القضاء، في السياسة، في الصداقة، في الأبوة، في المعاملة إلخ...».
يفسر غازي التوبة في هجومه على طه حسين اتجاهَه إلى الكتابة في الإسلاميات، بأنه «كتب في السيرة هادفاً الفن القصصي فقط، باغياً إرضاء ميول السذاجة والخيال عند الناس، مساوياً بينها وبين الأساطير!! كتب الفتنة الكبرى مشككاً في حكم الخلافة الإسلامية الأول، وفي إمكانية استمراره، ناعياً على الإسلام افتقاره للنظام المكتوب، معلناً انبثاق مذهب جديد في السلطان يقوم على الجبر والقهر، مبيناً رضوخ المسلمين وارتضاءهم للمذهب الجديد، زاعماً انسحاب الإسلام من مختلف قطاعات الحياة، وسيطرة المال والأثرة!!
كتب كل هذا: قاصداً أن يقنع المسلمين بأن الحكومة الإسلامية لا وجود لها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن طبقت فلأمد محدود لا يتجاوز حياة عمر، ويعود نجاح التطبيق إلى إمكانات عمر الفردية فقط!!
كتب كل هذا: هادفاً أن يلطخ صورة الخلافة الوضاءة كي يصرف أنظار المسلمين عنها، أن يثني عزائمهم عن السعي إليها بتهويل الصعوبات، فالأمر يحتاج إلى أولي عزم، وأين أولو العزم من الناس؟!».
ثم يسأل غازي التوبة هذا السؤال: ما هي الأسباب التي دفعته إلى الكتابة عن الإسلام؟
يجيب عن سؤاله هذا، بالقول: «يكمن السبب في الوضع الداخلي لمصر، فقد بلغ المد الإسلامي فيه ذروته العظمى في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات، باغياً إعادة تطبيق الإسلام في مجال الحكم، وإرجاع الخلافة الإسلامية إلى الوجود. وقد كتب طه – في اللحظة نفسها – أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات كي يشكك هذا المد بجدوى محاولته بالاستناد إلى تاريخ المسلمين نفسه».
تحت عنوان «مدرسة تشويهية تحريفية»، يكرر سؤاله مرة أخرى بصيغة مختلفة، صاغه على النحو الآتي: لماذا برزت كتابات طه حسين والعقاد الإسلامية خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها؟ ولم تبرز قبلها؟
إجابته عن سؤاله هذا، هي: «برزت كتابات طه حسين والعقاد الإسلامية في تلك اللحظة متصدية للمد الإسلامي الذي قاده الإخوان المسلمون، والذي بلغ ذروته إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، إثر انهيار النظام الديمقراطي، وفشل الدعوة الفرعونية. وانهزام نداء النقل الأعمى للحضارة الغربية. فقد أراد طه حسين أن يقول للمد الإسلامي: ماذا تهدف؟ دولة إسلامية؟ فقد تخلى عنها المسلمون الأوائل وساسوا السلطان بوسائل الدنيا. ماذا تهدف؟ الدولة الإسلامية؟ وأين ذلك منك؟ الدولة الإسلامية تحتاج إلى أولي عزم من الناس، وأين أولو العزم من الناس؟ فقد قضوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد أراد العقاد: أن يشكك المد الإسلامي في جدوى العقائد والتربية والجماعية في إنشاء المجتمعات، وأراد أن يعمي عليه الطريق ويضببه بمطلقاته المتداخلة حيناً، وبسيابة (!) تفكيره حيناً آخر».
هذا التفسير الذي كرره إزاء إسلاميات طه حسين، وقاله عن إسلاميات العقاد من دون تكرار، سرقه غازي التوبة من لويس عوض ونسبه إلى نفسه، بعد أن أعاد صياغته بلغة تآمرية، وفق ديباجة محشوة بالهذر السياسي والفكري، والهذر السياسي والفكري من مفردات الخطاب الآيديولوجي لدى «الإخوان المسلمين»، ولدى الإسلاميين عامة.
لويس عوض قال به أول مرة في مقاله الرثائي عن العقاد «موت هرقل»، الذي كتبه بعد وفاته في 12 مارس (آذار) 1964، في جريدة «الأهرام»، وهو المقال الذي أعاد نشره في كتابه «دراسات عربية وغربية» الصادر عام 1965.
وقاله مرة ثانية في محاضرته «التطورات الثقافية في مصر منذ عام 1952» التي ألقاها في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1966، وهذه المحاضرة ترجمها بنفسه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، ونشرها في كتابه «الثورة والأدب» الذي صدر عام 1966.
وفي هذه المرة لم يخص إسلاميات العقاد بهذا التفسير، بل شمل به إسلاميات محمد حسين هيكل وإسلاميات طه حسين. ولاعتداده بتفسيره هذا كرره مرة ثالثة في محاضرته الأميركية «التطور الثقافي في مصر منذ عام 1952» عام 1971، مفسراً به اتجاه هؤلاء الثلاثة للكتابة في الإسلاميات.
وسأثبت للقارئ بأدلة دامغة أن تفسيره تفسير زائف، ليس له أصل في تاريخ مصر السياسي والعقائدي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وليس له أساس آيديولوجي مضاد في كتبهم الإسلامية لدعوة «الإخوان المسلمين» الدينية، غير الواضحة والناقصة إلى أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينيات في ذلك القرن. وللحديث بقية.