رغم أن محكمة العدل الدولية في قرارها الذي «أمرت» فيه إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة في غزة، فإنه يعدّ قراراً قدَّم نصف حل «مرضياً»، وإن لم يستخدم لفظ «فوري» كما استخدمه في الحالة الأوكرانية، مما يضع محكمة العدل في دائرة الاتهام بالازدواجية والتسييس ونصف مراضاة لإسرائيل ونصف مراضاة للفلسطينيين، وكأن محكمة العدل الدولية أمسكت العصا من المنتصف، ووضعت ميزان العدل في منتصفه، ولم ترجح كفة العدل الذي هو شعارها ونصف اسمها.
الحكم الابتدائي لمحكمة العدل الدولية تضمن «مطالبة إسرائيل بتدابير طارئة بشأن الإبادة الجماعية، ومنع أي أعمال يمكن عدّها إبادة جماعية، وضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال إبادة، ومنع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة».
ولكن تبقى الإشكالية في تفسير مفهوم الإبادة الجماعية الذي بالتأكيد يختلف بين قضاة المحكمة الدولية وإسرائيل، التي قتل جيشها حتى الآن أكثر من 20 ألف مدني من غير «حماس» في غزة وجرح ثلاثة أضعافهم، فاتورة دم باهظة؛ إباحة القتل والإبادة الجماعية من الظواهر التي تفسر المناخ العنصري عند البعض في إسرائيل، ممن يؤمنون بظاهرة الغوييم (Goyim) التي تحض على العنف ونبذ الآخر.
هذا المناخ الفكري المتطرف هو الذي جاء بحركة «كاخ» وأمثال مائير كاهانا وعصابات «جبل الهيكل» وجماعة «غوش إيمونيم» وجماعة «نماحيلييت»، وهي جماعات تعلم الفكر المتطرف في مدارس من أشهرها «يشيفا»، وهذا الفكر تتبناه اليوم حكومة الحرب في إسرائيل برئاسة نتنياهو الملاحق بقضايا فساد حتى داخل إسرائيل.
ولعل مبررات الإبادة في الأثر والتاريخ الصهيوني كثيرة، والبروتوكول التاسع من البروتوكولات لحكماء صهيون الذي ينص على: «ومنا قد انطلقت تيارات الرعب الذي دارت دوائره بالناس»، يؤكد وجود المناخ العنصري الذي لا يتورع عن ارتكاب إبادة جماعية وغزة تحترق ويرتفع فيها عدد الشهداء كل يوم جلهم من الأطفال والنساء، ويبقى الإرهاب الحقيقي في منع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى وقصف المستشفيات وقتل الأطباء والتمريض والتحجج بوجود مقاتلين أو أنفاق تحت المستشفيات.
حتى في فرضية «السلام» والحوار، تعودنا من إسرائيل أن تفرغ المبادرات من محتواها بعد إسقاطها في مستنقع سياسة كيسنجر، التي تنص على تأجيل القضايا المهمة ثم تقطيع المبادرة إلى مراحل لا يتم تطبيق سوى 10 في المائة منها، كما حدث لأغلب المبادرات السلمية السابقة.
مجلس الأمن فشل حتى في استصدار قرار يوقف إطلاق النار وليس الحرب كحد أدنى، ولا حتى قرار إدانة للإبادة التي ترتكبها مؤسسة عسكرية مدججة بأحدث الطائرات تجاه شعب أعزل، وهنا أتحدث عن المدنيين، وليس مقاتلي «حماس» الذين يملكون السلاح للدفاع عن أنفسهم.
هذا المنطق والفكر المتطرف الذي يغذي الحرب والتصادم، ويمنع أي مبادرات للسلام أو التعايش، صحيح أنه ليس جميع من في إسرائيل يؤمن بهذا المنطق، ولكن يكفي أن الحكومة الحالية؛ حكومة الحرب حكومة بنيامين نتنياهو، أغلب الوزراء فيها يؤمنون بهذا، بل ويجاهرون به دون أدنى عقاب. ومن يخالفهم يسارعون في اتهامه بمعاداة السامية، وفي الحقيقة ظهر مصطلح السامية (Semitism) في عام 1781م، للدلالة على الجماعات والأقوام التي تربطها لغة واحدة، ثم ما لبثت الصهيونية خلط وتبديل الأنساب بينما، فلفظ السامية يطلق على أهل اللغات الأفروآسيوية؛ وهي العربية والآكادية والآشورية والبابلية والآرامية والسريانية والكنعانية والفينيقية والحضرموتية والأمهرية والعبرانية والمؤابية والأدومية. أما الحديث المبتور عن أن السامية هي اليهودية، فهذا يعد مغالطة في الأنساب وفي التاريخ، وانحرافاً كبيراً للحقيقة، ومما يؤكد ذلك أن هذه الشعوب التي تتحدَّث اللغة السامية هي شعوب كبيرة واسعة الانتشار، ولا يمكن بأي حال أن تكون هذه الشعوب قد اكتسبت اللغة السامية من اليهودية، ولا يمكن أن تكون كل هذه الشعوب تركت لغتها الأم للتحدث بلغة أخرى جاورتها، لأن القلة تتأثر بالأغلبية وليس العكس، وأيضاً لا يمكن أن تكون هذه الشعوب قد استعمرت وفرضت عليها اللغة من القلة التي تزعم أنها وحدها هي السامية، وبالتالي من الناحية الجغرافية والديموغرافية هذه الشعوب هي سامية الأصل رغم محاولات الصهيونية إخفاء الحقيقة، وإغفال الحقيقة لصالح فكر مريض يؤمن بعداء الآخر وكره الحقيقة.