لا بد من التفريق بين التضامن مع قضيةٍ، وبين الاستثمار بالقضية، وذلك عبر عددٍ من الوسائل، إما استعمالها كأداة تسويق، أو الاستنهاض بها من فشلٍ معين، أو تحويلها إلى خطابٍ هو دعاية للذات، لا انتصار للقضية.
الآن تقام الكثير من الأنشطة الرياضية والفنية في المنطقة، بطولات كروية آسيوية وأفريقية، مهرجان ترفيهي خيالي في «موسم الرياض». مثل هذه التجمعات الأممية يجب على الحاضرين إليها الالتزام بالمعايير الأخلاقية والأدبية، والحرص على تبنيّ الذوق الرفيع، لأن حضورها من مختلف الأعراق والحضارات والشعوب والأديان. محاولة اختطاف أيّ فرصةٍ لتمرير أجندةٍ كما حاول البعض في الرياضة، عبر تعليق صور زعيمٍ، بينما حاول بعض آخر بمهرجانٍ فني، أن يسوّق لنفسه عبر الحديث عن موضوعاتٍ سياسية يمكن أن يعبّر عنها بكامل حريته في منتدى استراتيجي أو سياسي أو صحافي، أو أن يكتبه في منصته على «إكس» (تويتر سابقاً) أو «فيسبوك».
سلّ السيوف الخشبية، وامتطاء خيول من ورق بذريعة الدفاع عن هذا الموضوع أو ذاك فيه ضعف في الذوق وعدم احترامٍ للفرصة المتاحة والثقة التي أسديت لأي شخصٍ لمخاطبة عشرات الملايين، من الطبيعي أن يفقد ثقة الآخرين من لم يحترم قواعد الضيافة، إذ لا يمكن الوثوق بمن يتطبّع بهذه التصرفات في قادم الأيام، ما الذي يضمن ألا يهاجم الحضور أو الضيوف أو المجتمع أو القادة؟
لا بد من فصل الجماليات (فنون - رياضة) وغيرها عن الآيديولوجيا. نحن نعلم أن مفهوم «الآيديولوجيا» مرّ بعددٍ من الأطوار، كما يشرح أستاذنا الراحل محمد سبيلا في كتابه عن المفهوم تمرحل المفهوم على النحو التالي.
المرحلة الأولى كونها: مجموعة الأفكار والآراء والتمثُّلات والتصوُّرات التي تتَّخذ إلى حدٍّ ما طابعاً متناسقاً، والتي تعبِّر عن وضعيَّة وطموح مجموعة اجتماعية ما (مهنية أو سياسية أو عرقية، أو طبقية، أو غيرها)، وتقدِّم لهذه الجماعة تصوّرات تدعم وحدتها وهويتها وربما رسالتها، كما تكون بالنسبة إلى هذه الجماعة بمثابة مخزون من الأفكار الموجِّهة للفعل، والمزوَّدة بالمعنى والغايات، والمقدمة إمّا تفسيرات ملائمة لوضعيتها أو تبريرات لمواقفها وتوجُّهاتها، هذا هو المصطلح في نشأته الأولى مع دستون دوتراسي في فرنسا سنة 1796 في كتابه «مذكرات حول ملكة التفكير» في جزئه الثاني: عناصر الآيديولوجيا، حيث كان يعني به دراسة الأفكار وسِماتها وأصولها والقوانين التي تحكمها، وكذا علاقتها بالكلمات والعلامات التي تعبِّر بها. وقد اندرج هذا المسعى في سياق تطور العلوم الوضعية القادرة على توضيح الأفكار وتنوير العموم، حيث انبرى تيارٌ من المثقفين سُمِّي بالآيديولوجيين (Les ideologues) ترأّسه دستورت دوتراسي (D. de Tracy) لإقامة علم للأفكار (المعنى الحرفي لكلمة آيديولوجيا) بهدف تبديد الأساطير والقضاء على النزعات الظلامية والقيام بتحليل علمي للأفكار.
المرحلة الثانية: تزامنت مع شيوع مصطلح الآيديولوجيا، وبخاصة في الحقل السياسي، إلى الماركسية، وإنْ بشحنة نقدية. فالآيديولوجيا عند ماركس هي المنظومة الفكرية التي تعكِس واقع وطموح طبقة اجتماعية ما، وذلك من حيث أن إنتاج الأفكار والتصوّرات والقيم في كل مجتمع مرتبط بالنشاط الاجتماعي وبالإنتاج والتبادل الاقتصادي. غير أن ماركس، الذي يتحدَّث عن كون الآيديولوجيا تعكس واقع فئة اجتماعية معينة يرى أن انعكاس الممارسة الاجتماعية في التمثُّلات والأذهان هو انعكاس معكوس، وهو ما يسميه أحياناً بعملية «القلب الآيديولوجي»، فالآيديولوجيا تعكس الواقع الاجتماعي عكساً مشوَّهاً أو مقلوباً بما يخدِم ويدعم ويرسِّخ للوضعية الاجتماعية للطبقة المؤمنة بهذه الآيديولوجيا. لذلك يقترح ماركس أن ننطلق في دراسة الواقع الاجتماعي لا ممّا يتصوّره الناس أو يقولونه عن أنفسهم أو من خلال ما يتخيلونه، بل من خلال واقعهم العيني كما هو. ومن المؤكَّد أن هذا التصوُّر الماركسي للآيديولوجيا يُضمر نوعاً من التمييز بين التصور الآيديولوجي الذي هو وعي مغلوط (fausse conscience)، والتصوُّر العلمي الذي هو تصورٌ وصفيٌّ يعكس صورة الواقع كما هو.
لاحقاً تشعّب المفهوم وتداخل مع عددٍ من المجالات، ولا مساحة لشرح ذلك عند فلاسفةٍ مثل مانهايم، ورايمون بودون، وألتوسير، وغيرهم.
لكن مع كل حومة هذا المفهوم بقي المفهوم يطرح بالشكل التقني البسيط، أي الآيديولوجيا المعنيّ بها الأفكار المتبناة بناءً على أدواتٍ غير علمية بالضرورة.
وعليه أقول: لا بد من تنحية الآيديولوجيا - ما أمكن - عن الفنون والجماليات، لأنها تشوّه الموضوع الرئيسي للفن، بعض المفكرين ينافحون عن فكرة توظيف الفنون لصالح مطامعهم ومطامحهم السياسية، ولذلك يحرصون على المحتوى الآيديولوجي للمسرح والسينما والفن. حين تكون الفكرة آتية في سياق المتعة الفنية لا مانع، لكن حين يكون الفن هو العربة، والفكرة هي الحصان، يتحوّل المنتج إلى موعظة من عرض المواعظ.
عبر التاريخ المعاصر ارتبطت الخطابات الصوتيّة بالشجاعة، لكن على من يتبنّى قضية معينة أن يذهب معها حتى النهاية، لا يمكنك أن تحشد لقضية وتريد من غيرك أن يقاتل عنك، لا يمكنك أن تكون «غيفارا»، بينما تعيش حياة «توم كروز». الذين يتبنّون قضايا سياسية معينة لا بد لهم من الدفاع عنها بالنفس أولاً إذا كان يقتنع بذلك ويتحمس، وبالمال أو بالجوائز الممنوحة كما يفعل بعض الفنانين، لكن أن تزايد على الآخرين وأن تستعملها ضدهم في مجامعهم، هذا فيه ضعف في الذوق، وبخاصةٍ حين تكون تلك القضية مخدومة ومحل اهتمامٍ عند الطرف الآخر، إن هذا مثل من يأتي إلى بلدٍ نظيف ومرتب ثم يحاضر على أهله بأهمية نظافة الشوارع وترتيبها، هذه مزايدة لا معنى لها، ولغو من القول، وتضييع للوقت.
الخلاصة؛ إن هذه الكرنفالات الرياضية والفنيّة ذات بعد جمالي، على الحاضرين إليها تنحية الجوانب السياسية والآيديولوجية، والتفريق بين خطابات «السوشيال ميديا» و«الفيسبوك»، وبين المنصات الراقية المرصّعة بالفخامة والجمال، وأن ينتخب المتحدث كلماته التي وُثق به ليلقيها على مرأى ومسمع من مئات الملايين، علينا أن نميز بين لا وعينا من وعينا، وعلى حدّ تعبير الفنان السير أنتوني هوبكنز: «لدينا بحيرة من اللاوعي تكمن داخل جماجمنا».