إذا حاولت أن تتابع أنباء الصراع الروسي- الأوكراني من خلال وسائل الإعلام الروسية الكبيرة والشهيرة؛ مثل «روسيا اليوم» أو «سبوتنيك»؛ فستجد أن معظم هذه الوسائل يستخدم تعبير «العملية العسكرية الروسية الخاصة» للإشارة إلى التطورات الميدانية لهذا الصراع الملتهب.
أما إذا ذهبتَ إلى وسائل الإعلام الأوكرانية النافذة؛ ومنها مثلاً: «أوكراينسكا برافدا»، أو «كومسولولسكايا برافدا»، فستجد أنها -مثل كثير من وسائل الإعلام الغربية الكبيرة- تصف هذا الصراع بأنه «غزو روسي»، أو «غزو روسي واسع النطاق».
وسينسحب هذا الاختلاف أيضاً على كثير من الأوصاف والمصطلحات التي تؤطر فهم الجمهور للصراع، وتشير في الوقت ذاته إلى موقف وسيلة الإعلام منه؛ ومن هذه المصطلحات ما يتعلق مثلاً بأوصاف «العدوان الروسي»، أو «نظام بوتين» التي لن تجدها سوى في الوسائل الأوكرانية والغربية، في مقابل أوصاف «نظام كييف»، أو «العميل زيلينسكي» التي لن تجدها إلا في ثنايا التقارير الروسية.
وأما هذا الاختلاف الواضح؛ فيعود ببساطة إلى مصطلح «التنميط» (Labeling)؛ الذي هو أداة المحرر-ومن ثم وسيلة الإعلام- لوصف «أسماء العلم» والعمليات للجمهور، بالشكل الذي يحقق الفهم المطلوب لإجلاء الغموض.
لكن الإشكال سيحدث باطراد كلما تم استخدام هذا «التنميط» من أجل إكساب الأسماء والعمليات المختلفة أوصافاً معينة من دون إثبات، بهدف التأثير في مراكزها القانونية والمعنوية، وبالتالي، حرف التقارير عن الموضوعية المُتوخاة، لتحقيق أهداف ومصالح مُحددة.
سيبقى هذا ديدن قطاع كبير من وسائل الإعلام المختلفة، عند تصديها لتغطية الصراعات وتضارب المصالح في كل مكان وزمان، وستبقى الانتقادات تتواصل من الجمهور وأصحاب المصالح والنُّقاد، من أجل حمل هذه الوسائل على استخدام «تنميط» معين، وسيتصاعد ذلك بموازاة الأهمية المتزايدة لأدوار الإعلام في مواكبة الصراعات.
ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومع اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، وما تلاها من صراع دموي ومأساوي ما زالت أخباره تشغل العالم، لم تتوقف الاتهامات والمشاحنات في شأن «تنميط» أطراف الصراع، ومحاولة التأثير في أداء غرف التحرير لتتبنى أوصافاً معينة، يمكن أن تُحسِّن مراكز تلك الأطراف، ومن يدعمها، أو تحط من شأنها، وتُغري بتخطئتها.
فبعد 5 أيام فقط من اندلاع «طوفان الأقصى»؛ اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إثر التعرض لانتقادات وضغوط، لنشر مقالة تسوِّغ فيها موقفها من تنميط أحد طرفي الصراع؛ وهي المقالة التي ورد عنوانها على هذا النحو: «لماذا لا تصف (بي بي سي) مسلحي (حماس) بـ(الإرهابيين)؟».
وفي التفاصيل، أن الهيئة البريطانية التي يُنظر إليها، على نطاق واسع، باعتبارها «حريصة على التزام معايير تحريرية عالية»، لم تصف «حماس» من تلقاء نفسها بأنها «إرهابية»؛ لأن هذا «ليس مهمتها»، مكتفية فقط بالإشارة في تعريف تلك الحركة بأنها تُصنف «إرهابية» من قبل المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.
الخلاف نفسه اندلع في عواصم عدة؛ منها باريس؛ حين واجهت «وكالة الصحافة الفرنسية» (أ.ف.ب) انتقادات مماثلة، بداعي أنها لا تصف «حماس» بأنها «إرهابية»، وهو الأمر الذي استدعى رداً وتوضيحاً من جانب رئيس الوكالة فابريس فريس الذي قال في هذا الصدد: «لم نمنع أياً من عملائنا من استخدام وصف (حماس الإرهابية) إذا كان هذا مناسباً لهم؛ لكن قطاعاً من عملائنا في مناطق مختلفة من العالم لا يعترف بأن (حماس إرهابية)؛ وهو الأمر الذي من المُهم مراعاته... فما العمل؟».
يُذكِّرنا ذلك بالأزمة التي اندلعت عند بروز «تنظيم الدولة الإسلامية»، حين قرَّرت وسائل إعلام غربية أن تُبقي على ذكره بالاسم السابق، بينما راحت وسائل أخرى تستخدم مصطلح «داعش» أو «التنظيم الإرهابي»، وهو الأمر الذي كان محل خلاف أيضاً.
ويمكن القول إن هذا الخلاف سيبقى ماثلاً ومتجدّداً عند تغطية أي صراع في المستقبل، والسبب في ذلك يكمن في رغبة الأطراف المتصارعة -عادة- في أن تحكي وسائل الإعلام رواية الصراع بما يصب في مصلحتها ويُثبت رؤيتها.
وسيكون من المهم أيضاً أن نذكر أن ما تتبعه «بي بي سي» و«أ.ف.ب»، وغيرهما من وسائل الإعلام الكبرى، يبقى هو الصحيح فيما يتصل بعدم وصف «حماس» بأنها «إرهابية» من قبل المحررين أنفسهم، وترك ذلك لأصحاب المصلحة، والاكتفاء بأمانة النقل عنهم.
عندما تقرر وسيلة إعلام أن تكون مهمتها هي «نقل العالم وشرحه» بأكبر قدر ممكن من النزاهة والإنصاف، وترك مهمة الفهم وتكوين الرأي للجمهور، فإنها ستظل ملتزمة بتجنُّب «تنميط» الأطراف عبر منحها أوصافاً لم تحظَ باتفاق بين قطاعات الجمهور المختلفة.