د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

هل تفلت إسرائيل من محكمة العدل الدولية؟

استمع إلى المقالة

هل يمكن لإسرائيل أن تفلت هذه المرة من الإدانة أمام محكمة العدل الدولية؛ الجهاز القضائي الأكبر في القضاء الدولي؟ أم أنها ستفلت من أي إدانة أو طلبات ملزمة كما تعودت منذ أكثر من 75 عاماً بفضل الدعم الغربي لها، خصوصاً من قبل التأييد الذي تحصل عليه دائماً من الولايات المتحدة الأميركية التي تجعلها محمية إن لم نقل محصنة من أي قرارات يريد مجلس الأمن الدولي فرضها على إسرائيل لاحترام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، لدرجة أن هذا الدعم جعلها تستهين وتسخر من هيئات الأمم المتحدة وأمينها العام، متناسية أن شهادة ميلادها صدرت لها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1947؟ هل يختلف الوضع الآن بالنسبة لها على أن القضية الفلسطينية طرحت للنظر فيها أمام محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي للأمم المتحدة؟ هل هذا يكفي وهي أصلاً لا تقيم أي اعتبار للمنظمة الدولية؟ أليست محكمة العدل الدولية ذاتها هي التي أدانت في عام 2007 الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية ولم تلتزم إسرائيل بما جاء فيه؟ ما سبب مخاوف إسرائيل من القضية التي رفعتها الآن جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية؟ ولماذا جنوب أفريقيا وليس أي طرف آخر؟ وما التداعيات المحتملة في حال تبنت المحكمة تدابير مؤقتة داعية لوقف إطلاق النار في غزة، لضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية؟ وهل ستستجيب إسرائيل إلى طلب كهذا؟

بدأت في يوم الخميس الماضي في لاهاي جلسة محكمة العدل الدولية حول دعوة جنوب أفريقيا للقضاة عما إذا كانت حرب إسرائيل ضد «حماس» في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، أم لا، إذا صح ذلك فسوف تكون إسرائيل قد انتهكت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي صدرت في 9 ديسمبر (كانون الأول) عام 1948، والتي قد صادقت عليها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

واستندت جنوب أفريقيا في دعواها إلى المادة الثانية من الاتفاقية التي عرّفت الإبادة الجماعية بأنها تعني «أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة، عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً) .... إلخ».

ودعّمت جنوب أفريقيا شكواها التي تقع في 84 صفحة والتي نشرت في موقع المحكمة، وأضافت إليها في جلسة المحكمة معطيات أخرى تعزز انتهاك إسرائيل الاتفاقية، وردت على مختلف ادعاءات إسرائيل لتبرير ما فعلته في غزة حين قال وزير العدل بجنوب أفريقيا في المحكمة رونالد لا مولا: «لا يمكن لأي هجوم مسلح على أراضي دولة مهما كانت خطورته (...) أن يقدّم أي تبرير لانتهاكات الاتفاقية».

وقالت المحامية من وفد جنوب أفريقيا إلى المحكمة، عادلة هاشم، إن «الوضع وصل إلى حدّ أن الخبراء يتوقعون أن يموت عدد أكبر من الناس جراء الجوع والمرض، ومنهم جراء الأعمال العسكرية المباشرة». وأضافت أن إسرائيل دفعت السكان في غزة «إلى حافة المجاعة». وتابعت: «لا يجري الإعلان مسبقاً عن الإبادات، لكن أمام هذه المحكمة ميزة؛ وهي الأدلّة التي جُمعت خلال الأسابيع الـ13 الماضية، والتي تُظهر بلا شك نمطاً من السلوك والنيات التي تبرر الادعاء المعقول بارتكاب أعمال إبادة».

وأشارت الدعوى إلى عدد من تصريحات القيادة الإسرائيلية من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع الإسرائيلي الذي وصف هذا الأخير في 13 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فلسطينيي «حماس» بأنهم «حيوانات بشرية»، وهو يحرض بذلك بشكل مباشر وعلني على الإبادة الجماعية. ووثقت الدعوى بتقارير أصدرتها الأمم المتحدة، وتقارير صحافية فلسطينية ومنظمات مجتمع مدني، حيث تمنع إسرائيل تغطية أحداث غزة من قبل الصحافة العالمية، ومحققي محكمة الجنايات الدولية وتقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وأضافت الدعوى أن هذه الإبادة الجماعية «تقوم على الأبارتايد والطرد والتصفية الإثنية، وضم الأراضي والتمييز، وتلغي حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره». وربطت الدعوى القضية بالمسار التاريخي بما قامت به إسرائيل بالفلسطينيين «مدة 75 عاماً من الأبارتايد، و56 سنة من الاحتلال للأراضي الفلسطينية، و16 عاماً من حصار مطبق لغزة».

وانبرت الولايات المتحدة في الدفاع عن حق إسرائيل بقول وزير خارجيتها أنتوني بلينكن: «تعتقد الولايات المتحدة أن قضية جنوب أفريقيا المرفوعة على إسرائيل تشتت العالم عن الجهود المهمة من أجل السلام والأمن». وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، إن الولايات المتحدة لا ترى أي أساس لمزاعم جنوب أفريقيا بشأن ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية بحق المدنيين في قطاع غزة. فتأكيد ممثلي الولايات المتحدة على مبدأ حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يتفق موقفها هذا مع السلوك الأميركي نفسه وفي تفسيرات المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي: «هذا عالم مقلوب رأساً على عقب، فدولة إسرائيل متهمة بارتكاب إبادة جماعية بينما تحارب الإبادة الجماعية... إن نفاق جنوب أفريقيا يصرخ إلى السماء»... فضحايا القصف الإسرائيلي من الأطفال والنساء هم الذين ترفع أناتهم إلى السماء، وجنوب أفريقيا أحسنت حين قدمت إسرائيل للمثول أمام محكمة العدل الدولية، التي من المنتظر أن تصدر قراراتها الموضوعية، كما من المؤمل أن تصدر سريعاً قراراتها المؤقتة في فرض وقف إطلاق النار. وهذه الدعوى التي تابعها ملايين الناس من أنحاء العالم تمثل انتصاراً بحد ذاته للقضية الفلسطينية!