يقول التاجر المصري الشهير محمود العربي: «كنت في العشرينات من عمري، وكلما نظرت إلى محل كبير اسمه (البرنسيس) في مواجهة المحل الذي أعمل به في الموسكي، كنت أدعو الله: (يا رب 100 ألف جنيه، ومحل زي البرنسيس)... كان صاحب المحل وزملائي يضحكون من تطلعاتي غير المنطقية!»، ويضيف العربي، الذي نشأ في أسرة متواضعة مادياً، أن تلك الحادثة وغيرها جالت في خاطره في اللحظة التي سلمه فيها وزير خارجية اليابان وسام «الشمس المشرقة» نيابةً عن إمبراطور اليابان.
ذلك الرجل كان يمتلك رؤية واضحة عدّها آخرون حلماً بعيد المنال. فتحولت رؤيته إلى واقع بتأسيس شركات «العربي غروب» العاملة في تصنيع وتسويق الأجهزة الكهربائية والمنزلية والمالكة لتوكيلات مثل «شارب» و«توشيبا» و«سيكو» وغيرها.
وقد فعل الأمر نفسه كونراد هيلتون عندما كان يضع صورة لفندق «والدورف أستوريا» بنيويوك في محفظته حتى يركز على تحقيق هدفه. وتُروى هذه الحكاية في معرض الحديث عن قوة الرؤية والإصرار على تحقيق الهدف الذي تحقق عام 1949م بشراء الفندق.
من كان يتوقع من الاقتصاديين في العالم أن يأتي محمد يونس ليؤسس مصرفاً للفقراء عام 1983 عبر تقديم قروض صغيرة (عشرات أو مئات الدولارات) لكن طويلة الأجل لمساعدتهم على بدء مشروعاتهم الصغرى، ونال به جائزة نوبل. من كان يتوقع أن النظرة الثاقبة لسلمية احتجاج الزعيم الهندي ماهاتما غاندي وجماهيره قادت بلاده إلى الاستقلال من دون عنف. من كان يتصور أن الإعلامية السمراء أوبرا وينفري التي رفض مديرها مساواة راتبها مع زميلها الأبيض، بحجة أنها غير متزوجة، لتستقيل غاضبة، فيقودها وهج رؤيتها وطموحها لتصبح ألمع نجوم البرامج الحوارية.
من كان يتخيل أن الزيارة العابرة للأميركي هوارد شولتز إلى إيطاليا ولدت لديه رؤيته لتحويل متجر بيع أكياس البن (ستاربكس) في سياتل إلى سلسلة مقاهي «تصنع» أكواب القهوة للزبائن، التي رفضها أعضاء مجلس الإدارة. لكن بعزيمته وإصراره أوقد شرارة المقاهي العصرية في جميع القارات، ليعود إلى عقر دار القهوة في إيطاليا فواجه ممانعة شديدة لدخول فكرته. ثم نجح بخطة ذكية في افتتاح مقهى فريداً رأيته في ميلان. وذلك ليبرهن مؤسس «ستاربكس» للإيطاليين أن الأول ليس الأفضل. فتحققت الرؤية بنقل المقاهي من القارة العجوز إلى جميع بلدان العالم. وقد قرأت تقريراً في بريطانيا بأن كل مقهى جديد يفتح تغلق أمامه حانتان لبيع الخمور في البلاد. وهذا دليل على ذلك القطاع الذي تضخم بفضل تلك الرؤية.
لا يحب علماء الإدارة «الحلم» لأنه أمر يصعب قياسه، وينطلقون من قاعدة «أبو الإدارة الحديثة» بيتر دراكر عندما قال: «ما لا يمكن قياسه تصعب إدارته». ولذلك كان من أبجديات التخطيط الجماعي والمؤسسي وضع أهداف قابلة للقياس. وأثبتت التجارب أن التخطيط إن لم يحقق كل أهدافنا فهو يأخذنا بكل تأكيد نحو الوجهة الصحيحة أو الاقتراب مما نصبو إلى تحقيقه.
لذلك يصعب أن تقوم خطةٌ من دون الارتكاز على رؤية واضحة، وهي صورة ذهنية للمستقبل المنشود. تتبعها الرسالة، وهي ماذا نفعل حالياً لتحقيق أهدافنا. ولتحقيق ذلك كله نحتاج مؤشرات أداء «KPI» تؤكد أننا نتقدم. وأشبّه الرؤية بالوجهة المقصودة، والرسالة بماذا نفعل حالياً في السيارة من استعدادات في طريقنا نحو مبتغانا. أما مؤشرات الأداء فهي علامات الطريق «milestones» التي «تؤكد» أننا في الاتجاه الصحيح. ولا ينافسنا سوى من يصل بطريقة أسرع وأكفأ منا. وأثبتت العقود الماضية أنه يمكن للفرد أن يضع خطة، والمنشآت غير الربحية والحكومية. وقد اخترقت المصانع والشركات العملاقة والصغيرة أسواقاً بفضل التخطيط.
عندما تُقدم لنا الإدارة التنفيذية كأعضاء مجالس إدارة خطةً استراتيجيةً ندرك جيداً أنها ليست مسلمات أو ضمانات، لكنها على أقل تقدير اجتهاد جاد مبني على وقائع ومعلومات وبيانات تاريخية تجعلنا ندنو تدريجياً من أهدافنا الكبرى.
ولا بأس أن يتأخر الأفراد والمؤسسات والبلدان عن تحقيق أهدافهم لأسباب خارجة عن إرادتهم. لكن التاريخ لن يشفع لمن تراخى أن بذل كل ما بوسعه لإتمام المهمة. ولذلك يقول شاعر العرب المتنبي:
وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً
كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَّمامِ