للمرة الأولى منذ قيام الكيان الإسرائيلي في 14 مايو (أيار) عام 1948، نجد واشنطن في حالة من الارتباك الدبلوماسي، تعكسها في مواقفها وتصريحاتها المتناقضة تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
الثوابت التاريخية الحاكمة للعلاقة الأميركية - الإسرائيلية، كانت تقوم دائماً على الرعاية الأميركية لتل أبيب، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وكانت تل أبيب تصغي جيداً لنصائح وآراء البيت الأبيض.
عشنا هذا النمط على مدى عقود طويلة، في أثناء تحولات كبرى في محطات فارقة، وتغيرات استراتيجية في محيط الشرق الأوسط.
فقد كانت واشنطن تدير المفتاح - القرار الإسرائيلي - في الوقت المناسب، لتعديل المسارات حسب ظروف اللحظة والمصالح المشتركة.
بنظرة سريعة استدعيت هذه النسخة من المفتاح لأتوقف أمام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فرنسا وإنجلترا وإسرائيل، فقد تسللت إسرائيل تحت غطاء العدوان، وهاجمت قطاع غزة وسيناء، لكن الولايات المتحدة تدخلت لإيقاف العدوان، ثم ضغطت على إسرائيل للانسحاب التام من سيناء، من دون ممانعة تذكر من الجانب الإسرائيلي.
كانت واشنطن تطمئن لاستجابة تل أبيب، لما يطرحه البيت الأبيض. لعبت أميركا دوراً كبيراً في الوصول إلى اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978، واتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979، فقد كانت أميركا هي الراعي والضامن.
المنهج الأميركي أثبت تأثيره داخل أروقة صناعة القرار الإسرائيلي، تزداد مساحة الاندماج الأميركي - الإسرائيلي. كل أوراق التفاوض الإسرائيلية - العربية لا تخلو من الحبر الأميركي.
تل أبيب تشعر بذاتها في حضور واشنطن على موائد التفاوض. وواشنطن تحرص على بقاء قوي لحليفتها. صفحة جديدة من المنهج الأمبركي نقرأ فصولها في العاصمة الإسبانية مدريد عام 1991، عندما دعت أميركا إلى مؤتمر دولي للسلام بين العرب وإسرائيل بعد حرب عاصفة الصحراء. بعد أقل من عامين، واصلت أميركا تقليب الصفحات، في عام 1993 حيث شهدت حديقة الورد في البيت الأبيض المصافحة الأشهر بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وإسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد اتفاق أوسلو، كان الرئيس الأميركي الديمقراطي بيل كلينتون بطل الصورة.
هذه الصورة منحت واشنطن مزيداً من التأثير على القرار الإسرائيلي، انعكس ذلك بوضوح في اتفاق وادي عربة عام 1994، بين الأردن وإسرائيل.
تأثير أميركي جديد على إسرائيل لمسناه في رسم الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل، تكرر التأثير ذاته في مؤتمر أنابوليس عام 2007، الذي حضرته إسرائيل بناء على رغبة أميركية.
وربما تكون هذه مجرد أمثلة تكشف عن حجم التأثير الأميركي على القرار الإسرائيلي، لكنّ ثمة سؤالاً يطرح نفسه الآن: ما الذي جرى لكي يتراجع هذا التأثير الأميركي على تل أبيب في الحرب الحالية على غزة؟
كل الشواهد تقول: إن هناك فجوة بين الإدارة الأميركية ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، هذه الفجوة بدأت ملامحها قبل حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكنها اتسعت كثيراً في الأيام الأخيرة من الحرب. لم تعد إسرائيل تلتزم بكتاب الوصايا الأميركية، لا سيما فيما يتعلق بحماية أرواح المدنيين في قطاع غزة، وإيقاف عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وعدم استخدام قذائف الفسفور الأبيض، وضرورة إيقاف القصف العشوائي، الذي تفوقت شراسته على شراسة قصف الحرب العالمية، حسب وصف جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي.
انتقلت هذه الفجوة بين إدارة بايدن وبنيامين نتنياهو، وحكومته الشديدة التطرف من الغرف المغلقة والقنوات الدبلوماسية إلى العلن.
الرئيس الأميركي قال مباشرة: يتعين على نتنياهو تغيير الحكومة الإسرائيلية، لإيجاد حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. الحكومة الحالية هي أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، وهي لا تريد حل الدولتين. قطعاً بايدن يدعم إسرائيل كما قال علناً، إنه صهيوني، ومن هذا المنطلق كان تقديره «أن سلامة الشعب اليهودي على المحك حرفياً»؛ لأن إسرائيل من وجهة نظره «تواجه تهديداً وجودياً»، لذا قال: «على إسرائيل أن تتخذ قراراً صعباً، ويتعين على (بيبي) اتخاذ قرار صعب بتغيير حكومته».
لا شك أن بايدن أدرك أن مصالحه الشخصية، ومصالح حزبه الديمقراطي، باتت هي أيضاً على المحك، فقد صارحته استطلاعات الرأي بواقع مرير في الطريق إليه. مطبات كبرى تنتظره في الانتخابات الرئاسية عام 2024، موظفو وزارة الخارجية الكبار يرفضون تعامل الإدارة مع الحرب على غزة. انشقاقات متلاحقة داخل أروقة الحزب الديمقراطي، خسارة تلاحق مصالح أميركا في الشرق الأوسط والعالم، والأكثر فداحة هي الخسارة الأخلاقية السياسية لأميركا بوصفها دولة عظمى وراعية للسلام.
كل هذه الخسائر لم تلقَ صدى داخل حسابات نتنياهو، الذي أراد أن يبدو بطلاً شعبياً متطرفاً في أعين الشارع الإسرائيلي، ذلك الشارع الذي تجتاحه موجة من التطرف. فضلاً عن أن رئيس وزراء إسرائيل يدرك تماماً أنه لا بد من إطالة زمن الحرب، فهو يريد أن يمتلك «الحصانة» بإسالة الدم الفلسطيني، فاستمرار الحرب يمنحه فرصة للبقاء في السلطة أكثر فترة ممكنة، والتهرب من مصير ينتظره، بل ربما يقوده إلى نهاية مستقبله السياسي، ودخوله السجن؛ لذا نجده يؤدي رقصته الأخيرة، ويخرج من بيت الطاعة الأميركي، الذي طالما رعى الوجود الإسرائيلي على مدار ثمانية عقود.