كان نجيب محفوظ في محاضرة لويس عوض «التطور الثقافي في مصر منذ 1952» هو العمود الفقري الذي صبّ عليه هجومه. وكان طه حسين كذلك في حديثه عنه وعن عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم.
قرر لويس عوض في هذه المحاضرة أن طه حسين في سنة 1938 انتهى.
أما لماذا انتهى في هذا العام بالذات. فلأنه في هذا العام – كما قال – «كان قمة نتاجه (مستقبل الثقافة في مصر)». ورأى أنه بعد تأليفه هذا الكتاب بلغ مرحلة الجمود الحقيقي. لتأليفه بعد هذا الكتاب سلسلة من التراجم الإسلامية!
مترجم محاضرته إلى اللغة العربية، محمد يوسف نجم، وسامي خشبة ردّا على رأيه هذا. ودافع عن هذا الرأي محمد محمود عبد الرازق ودافع عن كل ما جاء في المحاضرة، وذلك في مقاله الأول (دفاع عن موقف) لا في تعقيب من تعقيباته في الباب الثابت (قرأت العدد الماضي من الآداب).
وهذه القضية سأعرضها في مقال قادم مع مناقشتها مناقشة نقدية موضحاً اضطراب رأي لويس عوض في إسلاميات طه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد، وأن تفسيره لاتجاههم لكتابة الإسلاميات الذي انفرد به، تفسير باطل جملة وتفضيلاً.
رفض محمد مستجاب في مقاله (لماذا هذا التشويه للثقافة المصرية؟) أن يكون ما جاء في محاضرة لويس عوض نقداً أو مسحاً للحركة الثقافية، أو إلقاء ضوء على زواياها المظلمة، أو إضافة للأدب من مهتم بالأدب. وأصر على استخدام فعل (هاجم). لأنه – كما رأى – «لم ينقد، أي لم يطرح رأياً مبرراً مستنداً إلى قواعد منهجية».
هاجم – كما قال – كل كتاب مصر ومفكريها: طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وسعد الدين وهبة والمازني ونعمان عاشور.
ولشدة غضب محمد مستجاب من محاضرة لويس عوض، هاجمه ببعض الجمل التي تضمنت فحشاً في الهجوم.
وفي مقاله (مشكلة لويس عوض الصعبة) سأل عبد الرحمن عوف «لماذا هذا التشويه المتعمد وفي هذا الوقت بالذات لأنصع وأشرف أبناء الحركة الأدبية والفكرية في بلادنا منذ ثورة 19، والمد الديمقراطي والفكري، الذي صاحبها، طه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، بل لقد امتد التشويه لكتاب وفناني اليسار الموهوبين في القصة والمسرح، يوسف إدريس، وسعد الدين وهبة، ولم يشر إلى محمود دياب وكأنه غير موجود؟».
زعم لويس عوض في محاضرته أن الذين بدأوا حياتهم الأدبية بكتابة القصة القصيرة توقفوا جميعاً بشكل مفاجئ عن كتابة القصة القصيرة، وأخذوا يكتبون جميعاً للمسرح. قال مفسراً هذا الزعم الذي لا يقوم على بينة: «وافق ذلك، إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. كان لدينا وزير معارف اسمه كمال الدين حسين. كان من أصحاب اليمين (هنا عبارة لا تسهل ترجمتها إلى اللغة العربية لأن فيها لعباً على معنيين من معاني كلمة Right (رايت) الإنجليزية، وهما: اليمين، والصحيح). وكان هو الذي أنشأ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. شيء حدث في مصر يذكرني بما حدث في روسيا سنة 1917. في بداية الثورة الروسية كان الناس قلقين على ما يسمى عادة (التراث). وهكذا أظن أنه في أيام لينين الأولى أصر لينين وتروتسكي على تنحية ممثلي الجديد، وعلى تكريم الأشخاص الذين يمثلون التراث. واستمر ذلك فترة من الزمن إلى أن حدثت أزمة ماياكوفسكي إلخ... والأمم في فترات التحول تحرص على أن تلتزم جانب التعقل أكثر من اللازم. ولذا فالذي حدث سنة 1955 أن كمال الدين حسين حشد جميع المستميتين المتزمتين في الأدب المصري وحشرهم معاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ودعاهم سدنة الثقافة في البلاد».
قبل أن أقف عند بعض الأخطاء المعلوماتية، الصغيرة والكبيرة منها في هذا الكلام، أود أن أقف عند ما قاله في جملته الاعتراضية الشارحة عن معنى Right في اللغة الإنجليزية التي لا يسهل ترجمتها إلى اللغة العربية!
لو قال هذه الجملة كاتب منسوب إلى الثقافة، وعلى شيء من الثقافة السياسية، وهو يتقن اللغة الإنجليزية، لمررنا على ما قاله مرور الكرام.
لكن قائلها هو لويس عوض الذي إلى جانب إتقانه الإنجليزية، يتقن الفرنسية، ويحسن قراءة اللغة اليونانية القديمة وقراءة اللغة اللاتينية. والذي هو إضافة إلى ذلك متعدد الثقافات واسع المعارف. ومعني بالجانب الإيتومولوجي في بعض الألفاظ الأجنبية، كما يبرز ذلك في بعض مقالاته وبعض أبحاثه.
كلمة Right (يمين) في الإنجليزية في أصلها ومنشئها ليس فيها لعب على معنيين. فهذه الكلمة وكلمة Left (يسار)، هما – في الأصل والمنشأ – اسمان لأعضاء في جسم الإنسان، وهما اسمان لجهتين مختلفتين. والمعاني الإيجابية التي تتحلى بها كلمة (يمين) بالإنجليزية، والمعاني السلبية التي تتصف بها كلمة (يسار) في هذه اللغة – قبل حصول التقسيم السياسي إلى يمين ويسار – هو ليس من انفراداتها، فهي معانٍ متكررة في لغات أوروبية وفي لغات غير أوروبية وفي لغات قديمة.
كلمة right من معانيها أيضاً –على سبيل المثال - صحيح، والصواب، وقويم، وصادق، وحقيقي، وشرعي، وأيمن، حسب السياق الذي تستعمل به.
وإذا ما ذهبنا إلى البلد واللغة، اللذين نشأ فيهما، ذلك التقسيم السياسي في أواخر القرن الثامن عشر، وهما فرنسا واللغة الفرنسية، لوجدنا كلمة droite الفرنسية تتشابه في معانيها وفي معاني اشتقاقاتها مع معاني كلمة right الإنجليزية ومع معاني اشتقاقاتها. وكذلك الحال مع كلمتي يسار في الفرنسية gauche وsinister وفي الإنجليزية left.
وفي الفرنسية كلمة هي ambidextre، تقال عن الذي يقدر أن يستعمل كلتا يديه بالمهارة والكفاءة نفسها. ومعناها أن هذا الشخص صاحب يُمنيين لا يمين واحدة.
وهذا يقودنا إلى قضية تفضيل اليمين على الشمال أو اليسار. في الأديان السماوية كلها تفضيل لليمين على اليسار في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة. وقد امتد هذا التفضيل إلى التصورات عن الله مع خلاف في تفصيلاتها في الثيولوجيا المسيحية وفي الثيولوجيا الإسلامية. وفي أغلب الديانات الأرضية يُفضّل اليمين على اليسار. وشذّت عنها ديانة الشنتو في مسألة تفضيل اليد اليسرى على اليد اليمنى. وأما في الكونفوشوسية، فلا أفضلية لليمين على اليسار، ولا أفضلية لليسار على اليمين.
في الأصل في ثقافات وديانات ولغات كثيرة اليمين مرتبط بالحسن والمحمود واليسار مرتبط بالسيئ والمرذول. اليمين استقامة واليسار انحراف. هكذا كان الأمر إلى قبيل اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789.
في عدد من أعداد مجلة «الفكر المعاصر»، عدد 1 مارس (آذار) 1966، كتب فؤاد زكريا مقالاً عنوانه (اليمين واليسار في الفلسفة). قال فيه: «ففي آخر اجتماع في (مجلس الطوائف États générauxe) الفرنسي قبل الثورة الفرنسية مباشرة أصر نواب (الطائفة الثالثة Tiers – état) على أن يجتمع ممثلو الشعب كلهم ويقترعوا معاً، بدلاً من أن تقترع كل طائفة على حدة، وانتقل نواب هذه الطائفة إلى يسار رئيس المجلس، تعبيراً عن معارضتهم للملك. ومنذ ذلك الحين أصبح لليسار معنى جديد، معنى معارضة الأوضاع القديمة السائدة، والسعي إلى تغيير ظروف الحياة في سبيل تحقيق مزيد من التقدم للمجتمع».
ويرى برنارد لويس في كتابه (لغة السياسة في الإسلام) أن ترتيب أماكن الجلوس في الجمعية الوطنية الفرنسية بعد الثورة، مأخوذ من ترتيب أماكن الجلوس بين المعارضة والحكومة في البرلمان البريطاني.
وعلى غير ما يدعي لويس عوض ترجم مصطلح (اليمين) باللغة الإنجليزية وباللغة الفرنسية إلى اللغة العربية بكل يسر وسهولة. فهو ومصطلح (اليسار) لم يمرا بصعوبات كالتي مر بها مصطلحا الشيوعية والاشتراكية.
ومن المفارقات أنه بعد أقل من عام من إلقاء لويس عوض محاضرته – التي ألقاها باللغة الإنجليزية في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 بأميركا – كتب الشاعر أمل دنقل قصيدته (صلاة) التي بدأها بهذا الابتهال:
أبانا الذي في المباحث. نحن رعاياك.
باق لك الجبروت.
وباق لنا الملكوت.
وباق لمن تحرس الرهبوت.
تفردت وحدك باليسر. إن اليمين لفي خسر.
أما اليسار ففي العسر. إلا الذين يماشون.
إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة
العيون فيعيشون. إلا الذين يشون.
وإلا الذين يوشون قمصانهم. برباط السكوت.
وختمها بهذه المناشدة:
أبانا الذي في المباحث. كيف تموت
وأغنية الثورة الأبدية
ليست تموت!!
هذه القصيدة قائمة على تحوير فني آيديولوجي للصلاة المسيحية ولسورتي (العصر) و(الشرح) في القرآن الكريم. اليساريون العرب في السبعينات والثمانينات الميلادية كانوا حين ينشدون هذه القصيدة، ينشدونها بألم وأمل وخشوع، وكأنهم في صلاة دينية!
المؤرخ والكاتب الإسلامي فتحي عثمان الذي كان في منتصف الستينات الميلادية، يتصدى في مجلة (الرسالة) بكتابة ردود رصينة على سلسلة مقالات (اليمين واليسار في الإسلام) التي كان يكتبها المثقف والكاتب الماركسي أحمد عباس صالح في مجلة (الكاتب)، ثم انقلب على موقفه الرافض ليسرنة الإسلام، بعد سنتين من محاضرة لويس عوض، دعا بوصفه منظراً إسلامياً في أول عدد من مجلة (المسلم المعاصر)، إلى أن تكون هذه المجلة منبراً لليسار الإسلامي. ولأنه يخاطب بهذه الدعوة جمهوراً دينياً إسلامياً ينابذ اليسار من موقع (اليمين الديني، السياسي والفكري) لجأ إلى تأويل ديني متعسف، فزعم أن (اليمين) الممدوح في القرآن الكريم، هو (اليمين الأخروي)، لا (اليمين الدنيوي)! وللحديث بقية.