نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

ما بعد غزة... الاستخفاف ليس حلاً

استمع إلى المقالة

جحيم حرب غزة هو نتيجة لسلسلة طويلة من الاستخفافات. استخفَّ الإسرائيليون أولاً بالبُعد العقائدي لـ«حماس». قلَّلوا من شأن قدرة بعض تياراتها على تخييل المستحيل والسعي لتنفيذه، فكانت عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. في المقابل استخفّت «حماس» باحتمالات الرد الإسرائيلي. في الأيام الأولى للحرب سمعتُ من فلسطينيين كُثُر من أصحاب الخبرة في العلاقة مع إسرائيل يجزمون بأن الأمور لن تتجاوز بضعة أسابيع، وأن ما نراه لا يمثل تحولاً استراتيجياً بل غضبة وحش جريح وتزول.

وفوق هذين الاستخفافين المتبادَلين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يمكن رصد استخفاف ثالث، عربي هذه المرة، على مستوى الرأي العام قبل غيره، هو الاستخفاف بفكرة أن إسرائيل ما عادت تقاتل، وأن صفعة كصفعة السابع من أكتوبر «ستعيدهم إلى حيث أتوا»! كثيرون لم يقرأوا معنى أن يعود مئات آلاف الإسرائيليين من الخارج للالتحاق بالتعبئة. أكثر منهم مَن لا يزالون بعيدين عن فهم التحولات التي حلَّت بوعي الإسرائيليين، ممن يؤيدون السلام، ويعيشون في بلدات مجتمع «الكيبوتسيم» الزراعية في غلاف غزة، وجُلُّهم من اليساريين الاشتراكيين الذين قُتلوا وخُطفوا. وكثيرون استخفّوا بالحدود البعيدة جداً التي يمكن للموقف الغربي أن يذهب إليها في تأييد إسرائيل في حربها، رداً على عملية 7 أكتوبر الماضي.

أنتجت هذه الاستخفافات الجحيم الراهن. ويضاف إليها الآن استسهال البحث في طبيعة اليوم التالي لتوقف الحرب، وفق التصورات السابقة للحرب.

لنبدأ أولاً من الإقرار باستحالات ثلاث:

1- يستحيل أن تبقى «حماس» في غزة، دعْكَ عن أن تكون شريكاً في أي معادلة سياسية للحكومة المقبلة.

2- يستحيل أن تبقى إسرائيل في غزة قوة احتلال، لأن ذلك سيعني مجرد انتظار الانفجار المقبل وهذه المرة في الضفة الغربية وربما أبعد. هذا سيناريو جُرب وتعرف إسرائيل أثمانه العملية والسياسية عليها.

3- يستحيل القبول بفراغ في غزة، لأن ذلك سيجعل من المدينة المحطمة بؤرة للتطرف.

قد تبدو الإجابة البدهية أن تتسلم السلطة الفلسطينية غزة. بيد أن مثل هذا الاحتمال، يعوزه أن تتشكل حكومة فلسطينية مختلفة تماماً وبصلاحيات استثنائية تتجاوز كل هياكل النظام السياسي الفلسطيني القائم برؤوسه الثلاثة: حركة فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، رئاسةً وحكومةً ومجلساً تشريعياً.

إن إعادة تكوين الهيكل السياسي الفلسطيني الموحَّد، وبصلاحيات استثنائية، وبمشروع سياسي يتناسب مع وقائع ما بعد عملية 7 أكتوبر الماضي، تبدو مهمة شبه مستحيلة في ضوء الوضع الراهن للمزاجين الفلسطيني والإسرائيلي.

فلا الفلسطينيون يمتلكون تصوراً لمشروع الحد الأدنى الذي يستطيعون القبول به، أي مرحلة انتقالية ما دون حل الدولتين، كون هذا الحل يحتاج بدوره إلى سنوات لإعادة إنتاج مناخاته الموائمة، ولا الإسرائيليون يمتلكون الاستعداد النفسي والشعبي والسياسي والقيادي، لتقديم التنازلات اللازمة لحل يمكن أن يقبل به الفلسطينيون.

فأزمات إسرائيل الداخلية وإن كانت مرشحة للحل ضمن مؤسسات الدولة القوية، إلا أنها لا تقل عن أزمات الفلسطينيين الداخلية، ومثلها أيضاً تمتلك القدرة على تفجير مرتكزات ودعائم التسوية السياسية المطلوبة.

يحتاج الفلسطينيون إلى تعريف أفق سياسي واضح لأي مشروع تسوية مع الإسرائيليين وضمن خريطة زمنية ضيقة ومحددة.

وفي المقابل يحتاج الإسرائيليون إلى تعريف كيان سياسي فلسطيني واضح في التزاماته، يعقدون معه التسوية، علماً بأن السياسة الثابتة لحزب الليكود كانت حتى السابع من أكتوبر الماضي، هي إدامة الانقسام الفلسطيني وتدمير الشريك الواقعي ممثلاً في السلطة الوطنية الفلسطينية. كما يطلب الإسرائيليون وجود هياكل أمنية قادرة على إعادة فكرة الأمن للمجتمع الإسرائيلي، وهذا نقاش دونه عقبات وتعقيدات لا تنتهي حول هوية هذه الهياكل واستعداداتها.

فأيهما يأتي قبلاً؟ تعريف الأفق السياسي أم تعريف الهياكل السياسية؟

تزداد التعقيدات، بالنظر إلى رزنامة الاستحقاقات الدولية وأبرزها الانتخابات الأميركية المقبلة بعد أقل من سنة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، فلا شيء مما ذُكر قبلاً ممكناً من دون دور أميركي فاعل في ظل تردي القيادة الأوروبية حول العالم وانكشاف حدود ما يمكن أن يقدمه رعاة دوليون آخرون في وقت الأزمات الجدية.

تحتاج إسرائيل إلى بضعة أشهر للتأكد من تدمير البنية العسكرية لـ«حماس»، إذا نجحت، وترتيب أمر واقع ميداني في غزة يسمح لها بالتفرغ للتفكير السياسي في الحلول. بيد أن التركيز الأميركي سيكون ساعتذاك، وبدءاً من مارس (آذار) المقبل، قد انصبّ بالكامل على مجريات الانتخابات الأميركية الصعبة، مع ما يعنيه ذلك من أن السعة السياسية ستكون مستهلكة بما لا يسمح كثيراً بتوفير بعض الجهد والتركيز السياسي للملف الفلسطيني - الإسرائيلي.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك احتمال فتح الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية خلال الأشهر المقبلة، كتتمّة لحرب غزة، من وجهة نظر إسرائيل، فسنكون حينها أمام سنوات طويلة من عملية إعادة هيكلة الواقع الأمني والعسكري في الشرق الأوسط. فالأكيد أن إسرائيل لن تنتظر 7 أكتوبر جديداً على حدودها مع لبنان وهي تسعى لتغيير قواعد اللعبة تماماً مع «حزب الله». إن حصول مثل هذا الأمر هو وحده ما يُعيد أكثر من مائة ألف إسرائيلي إلى بلدات شمال إسرائيل. أما عدم عودتهم فيعني أن قدرة «حزب الله» على تهجير الإسرائيليين و«إعادتهم إلى حيث أتوا» ستكتسب في وعي الإسرائيليين و«حزب الله» مصداقية كبيرة، تشجع على المزيد من مراكمة الأوهام وأسباب الحرب.

بين كل الاستخفافات التي عرضتُها، يبدو لي أن الاستخفاف الأبرز هو تخييل الحلول كأن ما حصل مجرد نسخة أكبر من الحروب والمواجهات السابقة. ثمة الكثير الذي ينبغي أن يتغير فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً قبل أن نبدأ بالتمارين الأولى على تخيل الحل.