عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عندما تنحرف عدسة الصحافة عن اهتمام المواطن

استمع إلى المقالة

الصحافة البريطانية، من اليمن واليسار والمحايدة، وبكل أصنافها، وصفت نتيجة تصويت في مجلس العموم هذا الأسبوع بـ«هزيمة مدوية لرئيس الوزراء ريشي سوناك وحزبه المحافظ»؛ بعد تمرد كثير من نوابه وتصويتهم مع المعارضة متجاهلين توجيهات إدارة الحزب.

تفسير الوسائل الصحافية هنا يتجاوز مجرد القول الشهير برؤية الكأس نصف مملوءة أم نصف فارغة.

فعواجيز الصحافة الكلاسيكية، كأقلية مهددة بالانقراض، عددنا زاوية التركيز على الحدث البرلماني أمراً مقلقاً.

يشاركنا في ذلك المعلقون المستقلون، إذ لا يرون نتيجة التصويت هزيمة بل انتصاراً لديمقراطية أم البرلمانات بوضع العدالة قبل القانون، والقانون قبل الانتماء السياسي الحزبي الذي ركزت عليه الصحافة، فتجاهلت موضوع التصويت نفسه الذي يمس حياة مواطنين يمثلهم نواب من كل الأحزاب.

التصويت كان على تعديل أدخلته النائبة العمالية دايانا جونسون على مشروع قانون بتعويض ضحايا أخطاء طبية تعود إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي. الحكومة تريد تأجيل دفع التعويضات إلى ما بعد تحقيق قضائي إداري قد يستغرق سنوات، والتعديل دفع التعويضات فوراً بلا انتظار التحقيق.

وكان أكثر من 30 ألف شخص قد مرضوا بعد تلقي دم في مستشفيات الصحة العامة في ثمانينات القرن الماضي، بينهم 26 ألفاً و800 يعانون من متاعب صحية، وتوفي منهم 2400 من مرض نقص المناعة المكتسب ومن تليف أنسجة الكبد وتعطيل وظائفه. معظم المصابين كانون يعانون من «الهيموفيليا» (نقص تجلط الدم مما يسبب النزف الداخلي المستمر)، أو من أمراض وحالات أخرى تطلبت نقل الدم. معظم الدم كان مستورداً من شمال أميركا، والمتبرعون به اتضح أنهم مدمنو مخدرات ونزلاء سجون كانت شركات الأدوية تدفع لهم ثمن التبرع بالدم، وهم من الفئات التي تعدها اللوائح الصحية الأكثر حملاً للفيروسات. وأهملت المستشفيات فحص عينات الدم لحماية المتلقين للجرعات من الفيروسات والأمراض التي أدت إلى إصابة الآلاف.

وكان عدد من المرضى التجأوا إلى القضاء في العام الماضي، وحكمت لهم المحكمة العليا بتعويض مائة ألف جنيه إسترليني مقدم تعويض يتبعها المزيد؛ لكن العدد الأكبر من المتضررين لا يزال ينتظر التعويضات وفق القانون الذي أعدته الحكومة. وتقدر مصادر الخزانة أن تصل التعويضات إلى 5 مليارات بحد أدنى، لكنهم يتوقعون أن تتجاوز 22 ملياراً بعد إضافة كل المصاريف الإضافية، وتعويض متضررين آخرين كورثة المتوفين.

تعديل مشروع القانون يلزم دفع التعويضات خلال 3 أشهر من دخوله حيز التطبيق بتصديق الملك عليه بعد رفعه من مجلس اللوردات، ومن المتوقع في مارس (آذار) المقبل.

ورغم أن للحكومة أغلبية (350 مقعداً) 25 مقعداً زيادة عن نصف عدد أعضاء المجلس اللازمة لإنجاح أي تصويت، فإن تعديل العمال هزم الحكومة بأربعة أصوات (246 صوتوا مع التعديل و242 مع صيغة الحكومة الأصلية)، مما يعني أن 104 من نواب الحكومة إما امتنعوا عن التصويت أو صوتوا ضد الحكومة بما فيهم أربعة وزراء سابقين.

ومن ناحية الانضباط الحزبي، فإنه مصدر قلق للزعيم البريطاني أن قرابة 30 بالمائة من نوابه حزبه شقوا عصا الطاعة، وهو ما ركزت عليه الصحافة، متغافلة المكسب الديمقراطي من تصويت كهذا.

فمن ناحية، تجاهل النواب من كل الأحزاب السياسة (هناك 11 حزباً سياسياً آخر بجانب حزبي المحافظين والعمال، و18 نائباً مستقلاً)، الانتماء أو السياسي العقائدي، وركزوا على مسألة العدالة في ضرورة تعويض المتضررين من أخطاء طبية، لأن القانون واللوائح البرلمانية في هذه الحالة تضع العراقيل أمام تنفيذ الإجراءات العادلة، ويصبح المحامون أكثر استفادةً من المتضررين بتقاضي الأتعاب في تمثيل الأطراف المختلفة المعنية أثناء التحقيق القضائي العام الذي تريده الحكومة.

الزاوية الأخرى كيف أظهر التصويت الديمقراطية المباشرة بنظام الدوائر في أفضل صورها (بخلاف نظام التمثيل النسبي على المستوى القومي) الذي يضع النائب في لقاء مباشر مع أبناء الدائرة (يومان في الأسبوع يتحول مكتبه إلى «العيادة» يلتقي فيها ناخبيه ليس فقط للشكاوى وحل المشكلات، بل لمعرفة رأيهم في سياسة الحزب سواء الحكومة أم المعارضة)، كما أن نظام الدعاية الانتخابية هنا في بريطانيا يتم معظمه على عتبات البيوت وفي الأسواق والمحلات. فجاءت نتيجة التصويت معبرة عن أغلبية الناخبين عبر ممثليهم.

المقلق تركيز أغلبية الوسائل الصحفية على الصراعات الداخلية الحزبية، واعتبار تصويت ثلث نواب الحكومة هزيمة للزعيم، بينما يراها أغلبية المواطنين من منظور مختلف تماماً، مما يكرس الصورة السلبية عن مؤسسات الصحافة القومية والشبكات الكبرى لدى الناخب الذي يعدها من المؤسسة الحاكمة التي فقدت التواصل مع الشعب والناس العاديين ومشكلاتهم اليومية الحياتية، في انحسار اهتمامهم في قرية وستمنستر.

أعراض الحالة نفسها التي فوجئت فيها المؤسسة الصحافية العامة بنتائج تصويتي «بريكست» في 2016 والانتخابات العامة في 2019 اللذين جاءا بعكس كل توقعاتها.