تباينت علاقة المنطقة العربية بالغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) عبر التاريخ، فمن تفوق عربي استعمر أجزاءً من أوروبا إلى تفوق أوروبي اجتاح معظم الأراضي العربية، إلى تفوق أميركي - أوروبي في مختلف المجالات جعل العرب يبحثون عن علاقة إيجابية مع الغرب المتقدم.
إن رحيل الجيوش الأوروبية لم يعنِ يوماً رحيل سلطة المستعمر عن مستعمرته؛ لكنها الجدوى الاقتصادية والسياسية لمصلحة الغرب في العالم الثالث؛ فقد بدأ الاستعمار من أجل نهب خيرات البلدان التي لم تلتحق بركب الثورة الصناعية التي احتاجت لمواد خام غير متوافرة في أوروبا. ووفق المنطق الرأسمالي، يتوجب الحصول على تلك المواد الأولية بأرخص التكاليف، وذلك ما حدث.
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ادعت الدول الاستعمارية أنها تهدف إلى حمل الحضارة الحديثة إلى شعوب العالم الثالث، من خلال فرض وصايتها عليها ريثما تستطيع تلك الشعوب تدبير أمورها بشكل «حضاري». وخلال سنوات الاستعمار ارتكبت القوى الأوروبية جرائم شنيعة بل ومريعة في حق الشعوب، ومن يعتقد أن هذا الوصف مبالغة، فعليه فقط أن يقرأ عن الاستعمار البلجيكي للكونغو، وكيف كان حاملو الحضارة يقطعون أيدي وأرجل الأطفال لإرهاب البالغين وإجبارهم على العمل الشاق.
بعد انسحاب تلك القوى الغربية من العالم الثالث، وفراغها من القتال فيما بينها، تقاسمت النفوذ على البلدان التي ما زالت ترزح تحت وطأة التخلف (بالذات في أفريقيا)، بينما سعت لإقامة علاقات متينة مع الدول التي استطاعت أن تبني مؤسسات قادرة على إدارة شؤونها الخاصة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ الخطاب الغربي بفرض مصطلحات تبدو لوهلة إنسانية راقية، ولكنها تستبطن أسلحة ثقافية تهدف لتقييد العالم النامي والسيطرة عليه وفق قرارات «العالم الحر» و«الشرعية الدولية» التي جرى تفصيلها لتناسب الغربي ومن يتفق معه، ولضرب من لا يتماشى مع المصلحة الغربية.
شعارات مثل الحرية، التعددية، وحقوق الإنسان تُوَظَّف كعناوين تُنتقد بها الدول التي يرغب المستعمر القديم في الضغط عليها بهدف موافقة سياساته في قضايا معينة. تلك الشعارات نفسها تغيب في حال كانت تشوِّش على الأجندة السياسية لتلك القوى. ذلك هو نموذج «التفوق العرقي» الذي يقوم على فرض معايير المستعمر الحديث من خلال تفوق العرق الأبيض «White Supremacy» الذي يفترض أن نمط التفكير والسلوك للمجموعة المهيمنة يجب ألا يكون مقبولاً من قِبل بقية المكونات فحسب، وإنما يفترض أن يكون هو النمط السائد و«الطبيعي» الذي يتوجب على الجميع أن يحذو حذوه، ويقلّده حتى يكون «طبيعياً» وليس «شاذاً».
بعد تاريخ من الوحشية ضد المستعمَرِين من المستَعْمِرين وقمعهم وتغيير لغاتهم ومعتقداتهم الدينية بالقوة، تحوّل المستعمِرون إلى دعاة حرية ثقافية ودينية فارضين عقوبات سياسية واقتصادية على من يخالفهم في الرأي دون أدنى مراعاة لخصوصية أي بلد. ويا ليتهم طبقوا معاييرهم الجديدة على الجميع، فهم يغضون الطرف عمّا يتناسب مع مصالحهم الاستراتيجية، ويرفعون قميص شعاراتهم المثالية عندما يريدون الضغط على مخالفيهم.
لقد أقام الغرب الدنيا ولم يقعدها من أجل مقتل فرد جرى التعامل مع حادثة قتله بشكل قانوني يضمن للجناة محاكمة جنائية وليس مسيسة، في الوقت الذي لم يلتفتوا لعدد ضحايا إسرائيل التي تتفنن في قتل الفلسطينيين بأسلحة قدمها الغرب مجاناً بحجة «الدفاع عن النفس». والسؤال الأهم هنا: ما معايير حماية المدنيين في أثناء الحرب؟
لن نجد إجابة واضحة لأن مناط الحكم هو «الفاعل» وليس «الفعل»؛ فالإسرائيلي - وإن عاش في القرن الـ21 - فهو مستعمِر لا يختلف عن أمثاله في القرنين الماضيين، والفارق التاريخي لا يتعدى الرقم فحسب؛ لذلك فأفعال المستعمِر مبررة لأن السكان الأصليين يمنعونه من «حقه الاستعماري» في تهجيرهم والانتفاع بخيراتهم. إنها إشكالية المعنى الإيجابية لمصطلح «الاستعمار» الذي يوحي بحمل التطور والعمران للبلد المُدار من قبل القوى المديرة التي تحتكر حق تدبير أمور الشعب فاقدة الأهلية، وهذا بالضبط ما يحكم علاقة الإسرائيلي بالفلسطيني اليوم.
إن إشارة محمد عابد الجابري لتعامل الغرب مع الشرق بوصفه «موضوعاً» يجري تناوله وفق المصلحة الغربية وتنميطه على أساسها، تستدعي نقاشات إدوارد سعيد حول «النماذج الموحدة للشرق» التي تخدم المصالح التجارية والسياسية الغربية؛ فالشرق بالنسبة للغربي لا يعود أكثر من مصدر للمواد الخام والمصالح التجارية التي يجب أن تسير وفق معاييره هو، دونما مراعاة لمصالح الشرقي؛ لذلك نجده غير مهتم بالخسائر البشرية التي يدفعها الفلسطينيون في أحداث غزة، بل إن الحديث عن الـ1400 قتيل إسرائيلي يأخذ الجانب الإنساني للضحايا المدنيين الذين فقدتهم عائلاتهم، بينما لا يُلْتَفت للمدنيين الفلسطينيين الذين يشكلون 10 أضعاف عدد الضحايا الإسرائيليين. السبب بسيط وهو المعيار الغربي للإنسانية والذي يؤكد «آخرية» غير العنصر المتفوق، وبالتالي التأكيد على تفوق الـ «أنا - نحن» التي تعد الأصل للعالم بأسره، وما سواه «آخر - غير» دون المستوى.
يطول الحديث حول النظرة الاستعمارية الكولونيالية، وبعيداً عن النظرة السلبية لها من اليسار العربي، فإننا يجب ألّا نقبل بتنميط الغرب لنا وتحديده لقيمنا بناءً على معطياته التي تنتقص منا؛ فالخدعة الكولونيالية تكمن في أن من يتبنى خطاب العنصر المتفوق يعتقد أنه نال عضوية العالم المتحضر، وعليه فإنه يتبنى خطابها بشكل أكثر تعصباً من الغربيين أنفسهم! بل يزيد عليه بأن يطبق الشعارات العمومية على أبناء جلدته معتقداً أنه إن بدأ بـ«أناه» التي هي «آخر» بالنسبة للمستعمر، فإنه سيتمكن من دمجها مع الـ«أنا» الخاصة بالمستعمر ليتناغم معه.
في خضم أحداث غزة الأخيرة، جاءت قمة الرياض الاستثنائية لتتحدى الخطاب الاستشراقي الكولونيالي بتأكيدها على حقوق الشعب الفلسطيني الأعزل في الحياة الكريمة في دولته المستقلة. لقد نجحت الرياض في تخييب ظن القوى الغربية بأن جمعت زعماء «الشرق» العرب والمسلمين على طاولة واحدة لتخرج معهم ببيان توافقي يؤكد الحق الفلسطيني، ويدين الهمجية الاستعمارية الإسرائيلية. ولمن يستخف بهذا الإنجاز: عليك أن تقترح البديل المعقول والقابل للتطبيق بعيداً عن المثاليات التي لن تتجاوز المنصة التي تتحدث منها.