د. ياسر عبد العزيز
TT

خسائر الغرب التي لا تُحصى

استمع إلى المقالة

بعيداً عن محاولة تعريف مفهوم الغرب الذي بُذلت جهود كبيرة لإدراكه، قبل التوافق على استبعاد أصوله الجغرافية لصالح «مرتكزاته» الحضارية والثقافية، ومواقفه من الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان، سيكون من السهل اليوم توجيه الاتهام إلى هذا الغرب بوصفه «مُدعياً» وغارقاً في ازدواجية المعايير.

«يقول الغرب ما لا يفعله، أو يأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه، أو يستخدم الدعاوى الأخلاقية لتحقيق أهداف سياسية، أو ينادي بحقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير، حينما تخدم هذه المعايير أغراضه، ويتغاضى عنها تماماً إذا تعارضت مع مصالحه العملية».

هذه نسخة من الأقوال التي تتردد باطراد الآن بين أروقة البحث والتحليل، وفي الفضاءات الاجتماعية، وهي أقوال لا تتواتر فقط في الشرق «المأزوم أو المهزوم حضارياً»؛ لكنها تُسمع بوضوح وإلحاح في عواصم غربية، ويرددها الجمهور الغاضب في الشوارع، ويجازف سياسيون ومشرّعون بالتأكيد عليها في المنتديات السياسية.

لم يكن من السهل الوصول إلى هذا القدر من التوافق حول إخفاق الغرب في الوفاء بالتزاماته الأخلاقية والإنسانية المفترضة، وتضعضع وجاهته، واهتزاز هيبته الثقافية والحضارية، رغم بروز تلك الاتهامات في مراحل تاريخية عديدة، وتبني كثير من النقاد لها، وتطوير أنساق فكرية منادية بها على قواعد مؤسسية في بعض الأحيان.

لكن الحرب الروسية- الأوكرانية فتحت الباب لإعادة الاعتبار لتلك الاتهامات، ورفدتها بعديد الأدلة التي كان من السهل جداً الوصول إليها وتوثيقها؛ خصوصاً في المجال الإعلامي الذي أضحى مرتعاً لخروقات مهنية صارخة وقعت فيها مؤسسات إعلامية كبرى، لطالما نُظر إليها باعتبارها موضع إلهام.

ففي مواكبته للأزمة الأوكرانية سقط معظم الإعلام الغربي في مستنقع التحيز، بحيث يمكن القول، بكل نزاهة، إنه لم يترك خطيئة إعلامية شخّصتها الأكاديميات وعيّنتها الأدلة الإرشادية من دون أن يرتكبها.

وضمن ذلك، أمكن رصد هيمنة الحسّ العنصري على قطاع مُعتبر من التغطيات التي يمكن تلخيص مقاربتها في هذا الشأن، في عبارة ترددت كثيراً بصياغات مختلفة وبدلالة واحدة، مفادها: «كيف يحدث ذلك لمواطنين أوروبيين بيض البشرة ويمتلكون سيارات، وليسوا من مواطني الشرق الأوسط أو أصحاب البشرة السمراء؟».

وضمن هذه المقاربة الصادمة والخطرة في آن، ظهر تنميط مُغرض يتلاعب بالصفات؛ فيستخدم في الحالة الأوكرانية وصف «مقاتل من أجل الحرية»، بدلاً من التنميط الشرق أوسطي السائد... أي «الإرهابي».

وظهرت تغطيات كاملة تحرض على العنف ضد الروس... عسكريين ومدنيين، أو تسوغ مشاركة المدنيين في أعمال القتال، وتسميها «بطولة»، أو تؤطر فكرة أن «أوروبا أكثر تحضراً من أن تشهد حرباً».

الإخفاق الغربي في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية يمثل وجه العملة الآخر للسقوط في التعامل مع أزمة غزة؛ وسيبرز ذلك بوضوح في ظهور «المحتل» الروسي وتغييب «المحتل الإسرائيلي»، وفي دعم «المقاوم» الأوكراني، وإدانة «الإرهابي» الفلسطيني.

كان سقوط الإعلام الغربي مدوياً في معركة أوكرانيا؛ لكن هذا السقوط أضحى كارثياً في معركة غزة الدائرة راهناً. وبسبب هذا الإصرار العنيد على تجاوز المعايير المُفترضة، لم يعد الإعلام الغربي، ومن ورائه الغرب الحضاري والثقافي، قادراً على توجيه الآخرين أو تعليمهم أو لومهم، أو ادعاء التفوق الأخلاقي والمهني.

خسائر الغرب في معركة غزة سياسية بامتياز، بعدما اتضح أن منظوماته السياسية ترى بعين واحدة، وتكيل بمعايير متعددة، وتشخص الضحية والجاني تبعاً للأهواء، كما أنها أيضاً حضارية وثقافية كما يحب أن تُشخص ركائزه. وفي تلك الخسائر سيبرز تهاوي قدرته على الادعاء بمناصرة حقوق الإنسان، أو المناداة بحرية الرأي والتعبير، أو الحرص على الحق في الحياة، أو احترام الاتفاقات الدولية.

في خسارة الغرب الراهنة تكاليف أوسع من الحصر؛ فلو كان العالم الغربي يستخدم الادعاءات بشأن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والالتزامات الإنسانية والأخلاقية للضغط على الآخرين، وصولاً إلى تحقيق مصالحه المادية، فإن هذه الادعاءات فُضحت، وفقدت قدراً كبيراً من صلاحيتها للاستخدام.

وإن كان الغرب يستخدم هذه الادعاءات عن إيمان حقيقي بها يجتهد في الوفاء باستحقاقاته العملية، فينجح أحياناً ويخفق أحياناً، فإنه لن يكون قادراً على ترويجها أو الدفاع عنها كما يجب؛ لأن هذا الأمر يتطلب وجاهة واتساقاً لم يعد أي منهما موجوداً بالقدر المناسب.

أما الخسارة الكبيرة، فسيتكبّدها -مع الأسف- المدافعون عن تلك المعايير والقيم في مناطق أخرى من العالم، عندما سيجد أعداؤها ومناهضوها في تلاعب الغرب بها وتخليه عنها، فرصة للإغراء بها وعدم الاعتداد باستحقاقاتها، وتلك تكلفة ستكون لها عواقب خطيرة.