سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أوروبا على حافة الهاوية

استمع إلى المقالة

قررت «دار كريستيز» سحب لوحتين للفنان اللبناني أيمن بعلبكي من مزاد مخصص لأعمال منطقة الشرق الأوسط، في لندن، بحجة أنها تلقّت شكاوى لا تستطيع الإفصاح عن مصدرها، لكنها مضطرة إلى اتخاذ هذا الإجراء كي لا تسيء إلى علاقتها بعملائها الذين يبدو أنهم انزعجوا من محتوى العملين، مع أنهما من الأعمال المعروفة عالمياً. وبهذا تكون «كريستيز» الدار الفنية المحترمة والشهيرة، قد انحازت إلى مصادر الربح لا إلى المبدأ الفني الذي تدّعي العمل من أجله. وهذا من شيم الشركات الكبرى، ولو تعاملت مع أرفع الأعمال الإبداعية. لكن ثمة في هذه الحادثة ما يذكّر بما فعله وزير التربية الفرنسي غابريل أتال، في سبتمبر (أيلول) الماضي حين أصدر قرراً منع بموجبه الفتيات من دخول المدارس بالعباءة. علماً بأن فرنسا، لا تعتمد «المريول» الموحد، وتترك للطلاب حرية اختيار ما يناسبهم خلال الدوام. ففي الحادثتين، نقرأ حالة رعب من اللباس، الذي يعتبر في منطقتنا - لمن لم يتبن الزي الإفرنجي - وكل حرّ بما يرتدي، جزءاً من حياة الإنسان وعاداته اليومية.

نقول هذا، لأن إحدى لوحات بعلبكي التي أخافت عملاء «كريستيز»، كما ذكرنا، هي لرجل يضع على رأسه كوفية حمراء وبيضاء، ويلف بها وجهه، والثانية لرجل يلبس قناعاً واقياً للغاز. بالطبع يمكن لمواطن عادي، رقيق الثقافة، أن يلتبس عليه الأمر، ويظن أن كل من يتلثم بكوفية هو أبو عبيدة الناطق باسم كتائب عز الدين القسام، أو ابن عمه، لكن «دار كريستيز» ومن يتعاطون معها، يفترض أنهم على قدر أرقى من أن يقعوا في هذا الفخ الساذج، وهم يعرفون، جيداً أن أي رجل عربي في الأردن كما في السعودية، يمكن أن يلثّم وجهه بكوفية درءاً للبرد أو وقاية من رمل الصحراء وقد تكون طريقة للتخفي، وهذه بيئتنا، وتلك أزياؤنا، تماماً كما يعتمر رجل غربي قبعة للتدفئة أو للتأنق، وربما للتواري أيضاً، وكل الوجوه صحيحة. فهل نرتاب ونحاكم القبعات، ويحاكموننا هم في المقابل عند ارتدائنا الكوفيات. فهل المطلوب منا أن نسلخ جلودنا؟ أم يحلو للبعض رؤية العالم يدخل في دهاليز مظلمة نتنة، من الأحكام المسبقة المتبادلة، والاتهامات الحمقاء، التي لا بصيص لضوء في نهايتها.

رُبطت العباءة في فرنسا، بالإسلام السياسي، من باب تطبيق العلمانية ومبادئ الجمهورية في المؤسسات التعليمية، كما اتهمت الكوفية ضمناً، في لندن، بالعنف والإرهاب، من مدخل الفن والإبداع. ولربما من الحكمة تحييد بعض المجالات عن التوظيف والتأويل، وترك مساحة ولو صغيرة للتعبير الحرّ، البريء من حسابات المحاور والاجتهادات الخبيثة. وهذا أمر يزداد صعوبة، فلا يزال «البشت» الذي ألقاه أمير قطر على كتفي مضيفه ليونيل ميسي، كتهنئة له على تتويجه أفضل لاعب في ببطولة كأس العالم في قطر، يثير غضب الكثيرين، وكأنما لبس «البشت» انتقاص، مع أنه كرم في الثقافة العربية وتحبب وتشريف.

اختلاف الثقافات قد يخلق سوء تفاهم، وقيم المجتمع الواحد كما مفاهيمه ومفرداته الحضارية، تتغير مع الوقت. أخافت هتافات «الله أكبر» في إحدى المظاهرات من أجل فلسطيني، الفرنسيين ووسموها بالإرهابية، وصار العربي يحاذر النطق بها، وقد شعر أنها تثير حساسية الآخرين ووساوسهم. فالتضخيم ليس جديداً، والحملة الثقافية التي وجّهت ضد روسيا بعد حربها مع أوكرانيا، لعلها كانت أشرس وأقوى مما نراه من «إسلاموفوبيا»، نظراً لقصر الوقت الذي مورست خلاله، وكثافة الإجراءات التي اتخذت في ظرف أشهر قليلة. فقد طرد موسيقيون كبار وقادة أوركسترا من وظائفهم في أوروبا، وأوقفت عروض ومنعت أفلام، واعتدي على من يتحدثون اللغة الروسية في الشارع، ونبذ طلاب أقسام الآداب الروسية في الجامعات، بصرف النظر عن جنسياتهم. كما هوجمت مراكز ثقافية روسية، ووصل الأمر إلى حد مجنون بمقاطعة القطط ذات الأصل الروسي، ونحمد السماء أن الحصان العربي لا يزال محبوباً ومرغوباً ومدللاً، وتلك من نعم السماء علينا.

منذ سنوات، و«متحف فيلادلفيا» في أميركا يحضّر لمعرض للفن الإسلامي الذي عمره مئات السنين، وله أقسام خاصة، في كبريات المتاحف في العالم، ومع هذا وتحت تأثير حرب غزة، تم تأجيل المعرض، وكأنما محتوياته تتعارض مع الذوق العام، وقد تجرح بعض أصحاب القلوب الضعيفة.

ولحظة قرر رئيس تحرير مجلة «أرت فوروم» الأميركية التي تعنى بالنقد الفني منذ عام 1962، أن يوجه رسالة مفتوحة لنصرة فلسطين، جاء الغضب عارماً، بحيث دفع الثمن إزاحته عن رأس المجلة التي يفترض أنها تدافع منذ ستين سنة عن قيم الحرية والجمال وتنبذ البشاعة.

وكي لا نظلم ونفتري، فإن المشهد رمادي وليس سوداوياً في أوروبا. مقابل الحملة الإعلامية الشعواء على الفلسطينيين، هناك من العاملين في الفن، من وجدها فرصة ليذكّر بحقوقهم وضرورة إزاحة الظلم الواقع عليهم. الأمر لم يتوقف على المظاهرات، هناك من أخرج من جعبته أعمالاً فنية، ومن أطلق حنجرته في الغناء، ومن نظّم أنشطة على عجل، ومن هؤلاء «معهد العالم العربي» في باريس، الذي يستعيد هذه الأيام الفن والأدب الفلسطينيين، من غناء لشعر محمود درويش إلى مراجعة لنصوص جان جينيه نصير المضطهدين والمظلومين الفلسطينيين، ونقاش حول نكبة 48 كمفصل تاريخي غيّر وجه المنطقة ولا تزال آثاره باقية إلى اليوم.

ليس الجميع سواء في العنصرية والتمييز، وصوت الخير يعلو على ما عداه بمرور الوقت. لكن اختباري روسيا وثم غزة، وما تلاهما من هستيريا أوروبية، ومظاهر إقصاء لكل صوت معارض، ومحاولات لسن القوانين القمعية؛ كلها إشارات، لميول مستقبلية خطرة على الأوروبيين أنفسهم قبل غيرهم.