د. ياسر عبد العزيز
TT

غزة... وحرب الفقرات الانتقالية

استمع إلى المقالة

لم يكن هناك خلاف يُذكر على أن الإعلام له قدرة تأثيرية كبيرة في الرأي العام، وأنه مسؤول عن قدر كبير من التوجهات والانطباعات والصور الذهنية، التي تتولد لدى متابعيه بشأن الأحداث العالمية.

لقد حظي هذا المفهوم على الدوام بتوافق نادر، كما عززت البحوث التطبيقية، في معظمها، هذا التوافق، حين أكدت على وجود رابط بين المواقف السياسية والاجتماعية المختلفة لأفراد الجمهور وبين الرسائل الإعلامية التي يتعرضون لها.

ورغم أن هناك تبايناً يمكن رصده بسهولة بين قطاعات من المفكرين والباحثين وأفراد الجمهور في شأن طبيعة هذا التأثير وآلياته، فإن هذا التباين لم يقلل أبداً من وجوده وفاعليته.

وفي الوقت الذي يشكو كثيرون من المتخصصين وغير المتخصصين، من «انحياز إعلامي غربي» لمصلحة الطرف الإسرائيلي بشكل عام، وفي حرب غزة التي أكملت شهراً منذ اندلاعها في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بشكل خاص، تبرز الحاجة الماسة إلى إلقاء الضوء على أدوات هذا الانحياز المفترض وآلية عمله.

من جانبي، سأكتفي في هذه السطور بالإشارة إلى إحدى أهم تلك الأدوات وأكثرها تأثيراً؛ وهي أداة الفقرات الانتقالية، وقد كان الدافع لذلك ورود الأنباء عن ضغوط على هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) لحملها على وصف حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بـ«الإرهابية»، وسعي الهيئة للتنصل من هذا الوصف، استناداً إلى ما قالت إنه «معايير مهنية».

ولتبسيط المسألة، فإن الفقرات الانتقالية هي عبارات توردها وسائل الإعلام الاحترافية ضمن تقاريرها باعتبارها «حقائق لا تقبل الدحض»، وتُكتب من دون نسب لمصادر بين طيات التقارير، بغرض توضيح السياق، وإزالة الغموض، وتعريف الجمهور بأبعاد الأخبار التي تنقلها.

ورغم أن عالمنا يحوي مئات الآلاف من وسائل الإعلام التي تنقل الأخبار والصور باطراد وكثافة، فإن عدداً محدوداً من المؤسسات الإعلامية يتحكم في نحو 80 في المائة من الأخبار والتقارير الخارجية التي تُنشر حول العالم. ويعتقد بعض الباحثين أن هذا العدد لا يتجاوز عشر وسائل؛ خمس منها تتجسد في وكالات الأنباء الكبرى، وخمس أخرى تتمثل في وسائل إعلام مرموقة وشهيرة وذات اعتبار ومكانة.

وعندما حاولت أن أحلّل ما يرد من فقرات انتقالية بشأن حرب غزة الجارية راهناً في تلك الوسائل، وجدت أنها تجسد صورة من صور الانحياز للجانب الإسرائيلي. ولأنها ترد باعتبارها «حقائق لا تقبل الدحض»، ومعظمها يصل إلى الصحافيين المحترفين أولاً، فإنها تتسرب إلى وعيهم مباشرة، وتضحى جزءاً أصيلاً من فهمهم للأحداث، ومواقفهم إزاء طرفيها، قبل أن تنتقل هذه المواقف إلى وسائل إعلام أخرى، ومن ورائها قطاعات الجمهور. ومن بين تلك الفقرات التي ترد في «العشر الكبار» على مدار الساعة؛ ما يلي: «وتأتي العملية العسكرية المستمرة منذ قرابة أربعة أسابيع في سياق الرد الإسرائيلي على الهجوم الإرهابي الذي شنته حركة (حماس) على إسرائيل، والذي قُتل فيه ما لا يقل عن 1400 شخص، من بينهم أطفال ونساء ومسنون، كما تم اختطاف أكثر من 200 شخص كرهائن».

ومن بينها أيضاً: «وهو الانفجار الذي وقع في المستشفى الأهلي (المعمداني) في قطاع غزة، والذي أسفر عن مئات القتلى والجرحى. وبينما ألقت (حماس) باللوم على إسرائيل في ذلك، أيد بايدن الرواية الإسرائيلية القائلة بأن صاروخاً من (الجهاد الإسلامي) هو من تسبب بالكارثة؛ وهذا ما كرره العديد من الخبراء الغربيين في وقت لاحق».

ومنها أيضاً: «وتصاعدت التوترات منذ أن اجتاح مسلحو (حماس) بلدات إسرائيلية وحاصرت إسرائيل قطاع غزة رداً على ذلك».

وفي فقرة رائجة جداً استهدفت تعريف الجمهور بـ«حماس»، تتكرر الفقرة التالية: «... (حماس) حركة فلسطينية مسلحة تحكم قطاع غزة، وقد تعهدت بـ(تدمير) إسرائيل وتأسيس (دولة إسلامية)، وخاضت حروباً عدة مع إسرائيل منذ توليها السلطة في غزة».

ومن بين تلك الفقرات أيضاً فقرة تقول: «وجاء الهجوم غير المسبوق بعد يوم من الذكرى الخمسين للهجوم المفاجئ الذي شنته مصر وسوريا عام 1973، والذي أدى إلى اندلاع حرب كبرى في الشرق الأوسط».

إن تلك الفقرات الانتقالية كلها لا تقدّم حقائق بقدر ما تعرض منظوراً منحازاً للطرف الإسرائيلي، ليس في حرب غزة الراهنة فقط، لكن منذ عقود طويلة، حتى إن إحدى هذه الفقرات ترى أن حرب «أكتوبر 1973» ليست سوى هجوم شنته مصر وسوريا ضد إسرائيل، متغافلة عن عدوان تلك الأخيرة في 1967، واحتلالها الأراضي العربية.

تحفل وسائل الإعلام الغربية الكبرى بفقرات انتقالية ترسم صورة منحازة للصراع، وتُظهر إسرائيل دوماً في موقع الدولة المُعتدى عليها، التي تتعرض للهجوم من جيرانها، بينما «حماس» منظمة إرهابية، وفي أحسن الأحوال حركة مُصنفة إرهابية وتسعى لتدمير الدولة العبرية.

بموازاة حرب غزة، ثمة حرب أخرى في الفقرات الانتقالية بوسائل الإعلام العالمية الكبرى، تُغيب السياق، وتتلاعب بالحقائق، وهي حرب تربحها إسرائيل باقتدار.