عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

«غزة»... معارك الوعي والتطهّر السياسي

استمع إلى المقالة

مضى شهرٌ على سكان غزة المساكين وهم تحت أزيز الطائرات وعويل الصواريخ والغارات وأصوات المدافع والدبابات، وقنابل تنفجر بلا عدٍ ولا حصرٍ من آلة حربٍ إسرائيلية غاشمةٍ وظالمةٍ، لا ترقب فيهم إلاً ولا ذمةً، لا تفرّق بين مستشفى ومسجد ولا مدرسة وكنيسة، تنشر القتلى وتزيد المقابر الجماعية.

كل هذا جرى ويجري، وهو مدانٌ بكل المقاييس، ولذلك انصبت جهود الدول العربية على هدفٍ واحدٍ أساسي وملحٍ، وهو «وقف إطلاق النار»، المقارنة توضح حجم المأساة، ففي الحرب الروسية - الأوكرانية التي تجاوز عمرها السنة والنصف اقترب عدد الضحايا من عشرة آلاف مدنيٍ، أما في غزة فلم يكتمل شهرٌ واحدٌ فقط إلا وقد تجاوز الرقم العشرة آلاف ضحيةٍ بحسب الإحصائيات.

أنّات الثكالى مؤلمة، وعويل الأطفال يقطع نياط القلوب دون شكٍ، والأكثر إيلاماً هو أن تكون هذه الأصوات أعلى من صوت العقل والحكمة فتذهب سدى كما ذهب غيرها، وفي الأثر «ليس الشديد بالصرعة» أي ليس القوي من تأخذه العاطفة عن العقل، وفي السياسة فإن التعامل بواقعية وعقلانية ينهي المآسي، بينما عويل الفكر ونحيب التحليل له مجالٌ إنسانيٌ آخر ولا علاقة له بالسياسة من قريبٍ أو بعيدٍ.

المثقفون والكتّاب العرب، من غير دول الخليج العربي، افترقوا تجاه الحدث الساخن، فقلةٌ قرأت الحدث منذ لحظته الأولى ضمن سياقاته الطبيعية سياسياً وعسكرياً، آيديولوجياً واستراتيجياً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فسهل عليها فرزه وتوصيفه وتبصّر الموقف منه، وكثرةٌ كاثرةٌ منهم اتجهت نحو العويل والنحيب واستخدمت عضلات الحناجر مكان مهارات التفكير، فتاهت في الشعارات وغرقت في المزايدات، ومن هؤلاء فئاتٌ يمكن رصدها بسهولة في المشهد وهي تستحق التأمل.

فمنهم من هو فقير العلم، ضحل الثقافة، تزبب قبل أن يتحصرم، وأغرته النجومية ليقدّم نفسه محللاً سياسياً ومفكراً استراتيجياً، وهو في الحقيقة عاجزٌ عن رؤية المشهد السياسي في المنطقة وعاجزٌ عن قراءته ضمن التغيرات الدولية والإقليمية الكبرى، وهو يجترّ تنظيراتٍ قديمةٍ ومفاهيم باليةٍ أكل عليها الدهر وشرب لتوصيف حدثٍ ساخنٍ ومختلفٍ، وقد نشأ كثيرٌ من هؤلاء على أن «العدو» هو إسرائيل، ولم يستطع أن يفهم أن بالإمكان وجود خطر آخر على العرب دولاً وشعوباً، ويمتلك مشروعاً توسعياً عمره أكثر من أربعة عقودٍ ويمتلك مشروعيةً دينيةً وطائفيةً للتغلغل في الدول العربية، وهو مشروعٌ يفتخر بسيطرته على أربع دولٍ عربيةٍ وبسط نفوذه عليها، وهو المشروع الإيراني.

ثم يفترق هؤلاء إلى أقسامٍ: قسمٌ يطالب بنسيان الخطر الإيراني والاكتفاء بالعدو الإسرائيلي، لأنه بالأساس لم يقتنع بأن إيران خطرٌ على الدول العربية، وربما هو في العمق غير مقتنعٍ بأهمية دول الخليج العربي وأن الخطر عليها ليس خطراً على الأمن القومي العربي، ولهذا فهو بجهلٍ لا يغبط عليه وخفةٍ يطالب بنسيان الخطر الإيراني، ويطالب بنسيان خطر «الإسلام السياسي» جملةً وتفصيلاً، وكأنه لا يحكم دولاً ولا يؤثر في توازنات إقليمية ودوليةٍ، لماذا؟ لأنه لم يسمع في صغره بعدوٍ آخر غير العدو الإسرائيلي.

القسم الثاني، هو قسمٌ يبحث عن لقمة العيش من خلال التحليل السياسي، فهو إن أعطي منها رضي وإن لم يعط سخط، وهذا رخيصٌ، ولكنه موجودٌ، فبعد سنواتٍ من العيش الرغيد في ظل دول الخليج العربي يسعى جهده اليوم ليقلب لها ظهر المجن ويصطف مع خصومها، ولم يبق له إلا أن يعلن الولاء الكامل للولي الفقيه بحثاً عن لقمة عيشٍ بطعمٍ مختلفٍ، وهذا أقلّ أثراً من سابقه وهو كفيلٌ بكشف نفسه.

قسمٌ ثالثٌ، هو قسمٌ يسعى للتطهر السياسي من مواقفه السابقة، بمعنى أنه عبر سنواتٍ طويلةٍ، في وظيفته الثقافية أو الإعلامية أو في كتاباته وحواراته لم يكن مقتنعاً بأيٍ من السياسات العقلانية والواقعية لدول الخليج العربي التي كان يدافع عنها، ووجد في حدث غزة الساخن والمؤلم بحقٍ فرصةً ليكفر عن آرائه السابقة لأنه لم يكن مقتنعاً بها وبات يعتبرها خطايا وسيئاتٍ.

بعيداً عن هؤلاء تجد رموز «الإسلام السياسي» في شقه السني، وهم يخبطون خبط عشواء في السياسة، فينقلبون من النقيض إلى النقيض في أيامٍ معدوداتٍ، والداعية الكويتي طارق السويدان وموقفه من «حزب الله» اللبناني خير مثالٍ، حيث هاجمه لخذلانه غزة ثم عاد ليمتدحه لنصرتها ثم رجع ليهاجمه مرةً ثالثةً، كل هذا في أقل من شهرٍ، وكل ما قالوه عن الحكّام العرب هذه الأيام من لغة تكفيرٍ وتخوينٍ يجب عليهم تطبيقه على قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر حين تعاملوا مع إسرائيل وهم في السلطة، وإلا بان تناقضهم وفقدوا المصداقية.

خرج أمين «حزب الله» اللبناني في خطاب جماهيري للتعليق على أحداث غزة الساخنة، فبرّأ نفسه وحزبه، وبرأ إيران من أي دورٍ فيما صنعته «حماس»، وكان ضعيفاً، مهزوزاً في موقفه خلاف خطاباته عندما كان يهاجم الدول العربية أو يهدد الشعب السوري قبل سنواتٍ ويزبد ويرعد، وموقفه يعبّر عن خذلانٍ مكتمل الأركان لحركة «حماس» وأن تواجه مصيرها بنفسها.

الناشطون والناشطات المنتشرون في السوشيال ميديا هم كائنات تتلقى الآراء وتبثها، فهم ليسوا نخباً، بل «مؤثرون» بحسب ما يسمون أنفسهم، وهم بسبب الجهل أو عدم التخصص لا يلامون مثل النخب، ولكنّهم بحسب طبيعة هذه «المواقع السوشيالية» مجبرون أن يتحدثوا عن كل شيء تقريباً ويعلقوا على كل حدثٍ، كبر أم صغر، وقد اصطدم كثير منهم بجدار الجهل ونقص الوعي، وهؤلاء سيتغيرون حين تنجلي الأحداث، مع الأخذ في الاعتبار أن بعضهم يمتلك أجندةً آيديولوجيةً تتفق مع المحور الإيراني إما في الطائفية أو في الأصولية، وبعضهم مجرد «خلايا إلكترونية» تعبر عن سياسات منشئيها وداعميها.

قدر «القضية الفلسطينية» أنها قضية عادلةٌ يتلاعب بمصيرها كل الطامعين، وقدر «غزة» أنها تحت حكم «حماس»، وهي آخر أوراق «محور المقاومة» التي يمكن أن يلعبها لمواصلة قلقلة المنطقة، حيث «قداسة» القضية وعدالتها يمكن أن تمنحا غطاءً للسياسات المعادية للدول والشعوب العربية، ولكن الأوراق باتت مكشوفة أكثر مما مضى.

أخيراً، فكل الأمل في نجاح المساعي السعودية والعربية بـ«وقف إطلاق النار» وحقن دماء الشعب الفلسطيني، وفي معارك الوعي أن ينتصر العقل.