علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

موقف زوجة محمود عزمي من تحول منصور فهمي

استمع إلى المقالة

نشر زكي مبارك مقالاً بجريدة «البلاغ» بتاريخ 11 مارس (آذار) سنة 1931، كان عنوانه «أهواء وآراء في مجلس سمر في باريس» نقل فيه أحاديث مختلفة دارت في جلسة لتناول الشاي دعا إليها محمود عزمي وزوجته كلاً من: بشر فارس، وتوفيق صليب، وزكي مبارك، وشخص رابع ذكر زكي مبارك اسم عائلته التوني، ولم يذكر اسمه الأول. وقد يكون اسمه الأول شوكت. فشوكت التوني من قدماء الأدباء المصريين المشتغلين بالمحاماة.

ومن أحاديثهم المختلفة، حديث جرى عن إعلان منصور فهمي في محفل عام عن إيمانه الديني وتمسكه بالإسلام.

في بداية هذا الحديث، كان بشر فارس ومحمود عزمي يقرآن خبراً من قصاصة منشوراً في صحيفة مصرية، علق بشر فارس عليه، قائلاً: «شيء غريب».

سأله زكي مبارك عن الشيء الغريب: ما هو؟ فأجابه محمود عزمي: لا شيء!

قال زكي مبارك: يا أستاذ عزمي! إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان! ومع ذلك فهي قصاصة من جريدة مصرية، وما أحسبها من الأسرار بعد أن نشرت في مصر وجاءت إلى باريس.

قال محمود عزمي: ولكن في هذه القصاصة ما لا يرضيك!

مبارك: وكيف كان ذلك؟

قال عزمي متهكماً: زعموا أن الدكتور منصور فهمي صار من المؤمنين!

بعد ذلك قرأ محمود عزمي عليهم ما كتب في تلك القصاصة، وقد روى زكي مبارك في مقاله ما كتب فيها بالمعنى وليس بنصه الحرفي.

الخبر يقول: «وبعد أن انتهى الأستاذ الثعالبي من محاضرته، صاح الحاضرون: نريد أن نسمع الدكتور منصور فهمي! فرفض الدكتور منصور فهمي، فألح الجمهور في الطلب، وألح الدكتور منصور فهمي في الرفض، ثم اضطر في النهاية إلى الكلام. فقال: أيها السادة! ماذا تريدون من رجل قالوا: إنه ملحد؟ إن الذين هاجموني لم يعرفوا أن للشباب هفوات. ومع هذا فلي الشرف أن أعلن أنني متمسك أشد التمسك بالإسلام. ومن أجل هذا أعانق هذا الرجل المسلم».

علّقت زوجة محمود عزمي على هذا الخبر، قائلة: هذا جبن، إن منصور جبان.

رد عليها زوجها، فقال: نحن لا نقبل رأيك في منصور، لأنك تكرهينه!

تصدى زكي مبارك للدفاع عنه، فقال: الدكتور منصور جبان؟ لو كان جباناً لأعلن إسلامه يوم كانت مصالحه تتوقف على كلمة واحدة يرضي بها رؤساء الجامعة المصرية، وهو اليوم وقد اطمأن على مركزه ومستقبله وأصبح غير محتاج إلى مصانعة أحد، أفتظنون أن عواطفه نحو الإسلام في هذه الظروف نوع من الجبن؟ إنكم لا تعرفون الدكتور منصور. لقد مرت به أوقات كان لا يؤمن فيها بأكثر التقاليد القديمة، فكان يجاهر بتركها، غير مبالٍ بما يلحقه من الأضرار الاجتماعية في بلد درج أهله على تقديس التقاليد.

زوجة محمود عزمي: أنت لا تعرف منصور كما نعرفه. لقد ربيناه (!). نحن نعرفه من ثلاثين عاماً أو تزيد.

مبارك: ومع ذلك لا تعرفونه يا مدام، إن الدكتور منصور ملك من الملائكة، وحسبه أنه الرجل الوحيد الذي عرفناه يترفع عن الدسائس والصغائر في عصر كله نفاق وخداع.

مقال زكي مبارك يصحح معلومة خانت ذاكرة محمد لطفي جمعة تذكر تاريخها الصحيح. فهو قد قال إن منصور فهمي أعلن توبته في حفل توديع الثعالبي عام 1937. والواقعة قد حصلت بعد محاضرة ألقاها الزعيم السياسي والديني التونسي عبد العزيز الثعالبي في جمعية الشبان المسلمين عام 1931.

مقال زكي مبارك أعاد نشره في كتابه «الأسمار والأحاديث». ويحسن بالقارئ أن يقرأه كاملاً في هذا الكتاب، فهو يعطي صورة عن قرب للراديكالية الليبرالية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.

هذه الجلسة التي أقامها محمود عزمي، أقامها حين كان مهاجراً إلى باريس، للعمل مستشاراً للخديو المعزول عباس حلمي الثاني. فلقد أقام فيها من عام 1931 إلى عام 1932، وكان في هذا الوقت معارضاً لحكومة إسماعيل صدقي. رحل بعدها إلى لندن وأصدر في عام 1933 صحيفة «العالم العربي» باللغة الإنجليزية للدفاع عن الديمقراطية وحرية الصحافة. قبل معارضته لحكومة صدقي كان معارضاً لحكومة محمد محمود، ومعارضاً لحكومة لاحقة، هي حكومة عبد الفتاح يحيى التي جاءت مباشرة بعد حكومة صدقي الأولى.

كان زكي مبارك وقتها يجدّ في كتابة رسالة في باريس للحصول على شهادة الدكتوراه الثانية.

مع أن محمود عزمي نشأ في عائلته نشأة دينية فإنه بعد دراسته العليا في فرنسا تحول إلى علماني ليبرالي راديكالي. فهو المثقف المصري العلماني الوحيد الذي عارض النص في دستور عام 1923، بأن دين الدولة الإسلام، واعتبره نصّاً مشؤوماً. دعا – تأثراً بكمال أتاتورك – إلى لبس القبعة الغربية وخلع الطربوش عام 1926. ولبسها من عام 1926 إلى 1936. طرأت عليه تحولات سياسية وفكرية، منها تخليه عن العلمانية الراديكالية، ودعوته إلى القومية العربية بمعناها السياسي، ابتداءً من الثلاثينات الميلادية، وكانت هذه الدعوة نادرة في مصر وقتذاك. وقبلها في العشرينات الميلادية كان من أعضاء الرابطة الشرقية. وكشف محمد حسنين هيكل، في وقت متأخر، عن أن له نصيباً في الأفكار التي طرحها جمال عبد الناصر في كتابه «فلسفة الثورة».

عمل بعد حصوله على درجة الدكتوراه في علم القانون عام 1912 بالصحافة. تخللها عمل أكاديمي في مدرسة التجارة العليا، مدرساً للاقتصاد. وعمل أستاذاً للصحافة في معهد الترجمة والتحرير والصحافة. وعمل مدرساً للقانون في كلية الحقوق بدار المعلمين العالية في بغداد. وهناك أطلق عليه طالب رصاصة أصابت كتفه. وأطلق هذا الطالب الراسب رصاصة أخرى على زميله المصري حسن سيف أصابته في رأسه، فتوفي على أثر هذه الإصابة القاتلة. زكي مبارك كان شاهد عيان، وكتب عن هذه الحادثة المؤسفة مقالاً عنوانه «فاجعة بغداد»، أعاد نشره في كتابه «وحي بغداد».

ثمة ألفاظ عربية جديدة سكّها محمود عزمي؛ هي: الإعلام، والأممية، والتدويل، والتأميم، والماجريات. (راجع كتاب نجوى كامل: محمود عزمي رائد الصحافة المصرية). محمود عزمي كان ريادياً في حقوق الإنسان وحقوق المرأة وفي حرية الصحافة. وكان خبيراً في الاقتصاد وفي السياسة والسياسة الدولية. ومثّل مصر في محافل دولية. توفي عام 1954 في أميركا بعد مدة وجيزة من تعيينه رئيس البعثة المصرية في الأمم المتحدة.

زوجة محمود عزمي هي من روسيا البيضاء، وكانت زميلة له في دراسته بفرنسا. ذكرت المؤرخة لطيفة محمد سالم في كتابها الضخم «فاروق وسقوط الملكية في مصر 1936 - 1952م» أنها يهودية. كما ذكرت في الهامش المعلومة التالية: «كان محمود عزمي من خصوم القصر الذي رفض أكثر من مرة ترشيحه لمنصب الوزارة لسببين أولهما زوجته وثانيهما أنه عرف منذ شبابه بميوله الجمهورية». وفي هذه المعلومة نرى قدر تأثيرها في زوجها. كان لها حضور اجتماعي وثقافي قوي ومؤثر في مجتمع القاهرة الليبرالي. ومن دون قصد منها كانت هي العتبة الأولى التي أفضت بالكاتب السياسي والمناضل الماركسي محمد سيد أحمد إلى اعتناق الشيوعية.

يقول محمد سيد أحمد في مجلة «الهلال» عدد أبريل (نيسان): «وأذكر أن زوجة الأستاذ محمود عزمي، قد دعتني بعد ذلك لحفل شاي عندها برفقة نيفين بنت رئيس الوزراء الأسبق حسين باشا سري، لتفتح معنا حديثاً فيما تصورتْهُ هي مسائل نعلم عنها الكثير. والحقيقة أني لم أعلم عنها ما تصورتْ. فلقد خرجت نيفين من الزيارة – وكانت تتقن العزف على البيانو – بكتاب عن تشايكوفسكي، وخرجت أنا بكتاب عن لينين».

محمد حسنين هيكل، الذي في أثناء كشفه في قناة «الجزيرة» عن دور محمود عزمي في كتاب «فلسفة الثورة»، ذكر أنه على معرفة جيدة بمحمود عزمي، واعترف في حديث آخر بأنه مدين في حبه للموسيقى الغربية لزوجة محمود عزمي الروسية التي كانت تجمعه مع نفر غيره في بيتها كل يوم خميس للاستماع إلى الموسيقى الغربية وتساعدهم على تذوقها وعلى فهمها. وللحديث بقية.