ذكرت في مقال سابق أنني مؤمن بأن كل جيل من أجيال المسلمين، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسباً للإيمان والتدين في عصره. وأن هذه القناعة تعني إمكانية أن يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية، مختلف عن العصور السابقة.
وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية «لكل سؤال صحيح، جواب واحد صحيح، ولا يمكن أن يكون أكثر من واحد».
وتطبيق هذه الفكرة أن الشريعة مجموع أجوبة الدين على أسئلة الحياة، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله أو الرسول.
أظن أن معظم من يسمع هذا الكلام، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولاً ومطابقاً لما تعلمناه منذ الصغر.
رغم ذلك، فهو لا يمنع تساؤلات جدية، أولها: من قال إنه بديهي. وإذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي، فلماذا اجتهد القضاة والأئمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا، فأبدعوا آلاف الأحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟
قد يظن القارئ العزيز أن دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد، فيحتاج إلى اجتهاد في تحديد الموضوع، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه.
وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم أن عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه، الثقافية والاجتماعية، فضلاً عن المستوى العام للمعرفة في زمنه.
وأحيل القارئ إلى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين، الذين أنكروا كروية الأرض، اعتماداً على آيات أو أحاديث توحي بأنها مسطحة (الرؤية 16 أكتوبر/ تشرين الأول). فهؤلاء الأعلام افترضوا أنه لا يمكن مخالفة النص، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعاً أن يأتي مفسر أو فقيه معاصر بمثل هذا؛ لأن الزمن تغير.
إن الأفق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي، فإن رأي الفقيه أو المفسر الذي نظنه مطابقاً لمفاد النص، هو في الحقيقة فهمه الخاص أو الفهم السائد في زمنه.
ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة وأساليبها، فضلاً عن تطور المعرفة واتساع إدراك الإنسان لحقائق الطبيعة. أي أن الجواب الذي ظن أنه الوحيد الصحيح، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.
إن استقلال العلوم عن بعضها، واتجاهها للتخصص الدقيق هو أهم التحولات التي حصلت في القرنين الأخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادراً على الإحاطة بعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الرياضيات، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة، تحولت إلى تخصصات متوسعة ودقيقة، لا يمكن للفقيه أن يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والأدب والمنطق والفلسفة والتاريخ، وكذلك العلوم الخاصة بالإثبات وفهم النزاعات، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاج إليه القضاة.
إن اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيداً عن مدارس العلم الشرعي، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس، مسلمين وغير مسلمين، أي فهم موضوعات الشريعة، ثم في صياغة أحكام الشريعة.
ما ندعو إليه إذن هو إقرار المشتغلين بالفقه، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الأخرى. فإذا كان لعمل الفقيه قيمة، فإن جانباً منها يرجع إلى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة أجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. إنه واقع قائم، لكنه يحتاج إلى إقرار وتنظيم.