أحمد محمود عجاج
TT

الخوف الأميركي الصيني المتبادل... حرب لتحقيق السلام

استمع إلى المقالة

لا شيء أصعب على دولة عظمى مثل أميركا أن تدرك، ولو عرضاً، أن قوة أخرى مثل الصين ستأخذ مكانها؛ هنا تصح فرضية المؤرخ القديم ثيوسيديس بأن الدولة الخائفة ستسعى لوقف من ينافسها بزيادة قوتها، والصاعدة كرد ستزيد من تسلحها، وهكذا دواليك إلى أن تقع المواجهة. السؤال: هل ستقع حتماً؟ كل شيء ممكن، ولعل هذا حفز الرئيس الأميركي بايدن للسير في سياسة الاحتواء، ثم التحذير، ثم التهديد الجلي. بدأت سياسة الاحتواء بنسج تحالفات اقتصادية وعسكرية في محيط الصين الإقليمي، ثم التحذير بإظهار تبعات مساعدة الصين عسكرياً لروسيا، وتجاهلها القانون الدولي ببنائها جزراً صناعية تهدد أمن دول الجوار؛ ما دفع قادة تلك الدول المتخوفة للتكاتف مع أميركا لتقليل الخطر الصيني؛ ثم التهديد على لسان الرئيس بايدن أكثر من 3 مرات أن الولايات المتحدة ستأتي لنجدة تايوان عسكرياً إذا ما حاولت الصين استرجاعها بالقوة. هذا التهديد الأميركي هدفه الأساس تعديل نظرية «الغموض الاستراتيجي» التي تعتمد على عدم إظهار كيف ستتصرف الولايات المتحدة في حال اجتياح تايوان؛ الغموض هدفه إرباك الصين بالدرجة الأولى؛ لكن تصريح بايدن نسف نظرية الغموض، وكشف كيف سترد أميركا، وبهذا تيقنت الصين أنها ستخوض حرباً مع أميركا.

هذا الموقف الأميركي الجديد يقابله موقف آخر رمادي وعالي الخطورة، يتمثل بموقف الرئيس الأميركي السابق ترمب، المرشح لولاية ثانية، يقول فيه: «إن تايوان تبعد مئات الأمتار عن الصين، بينما تبعد عنا آلاف الأميال، ولن نقدر أن نفعل شيئاً إذا هاجمها الصينيون». هذا التصريح يعطي معنى مخالفاً لنظرية «الغموض الاستراتيجي» بأن أميركا لن تقدر على منع الصين من احتلال تايوان، وتلميحاً للصين أن استرجاع الجزيرة بالقوة ممكن. هذان الموقفان من رئيس أميركي حالي ورئيس محتمل أن يفوز بقدر ما يربكان القيادة الصينية، يربكان قادة آخرين في عالم يتشكل حول أقطاب متعددة. لكن كلا التصريحين الأميركيين رغم تناقضهما يعبر عن ديناميكية الخوف الأميركي من الصين، ويمكن قراءة: «ليس بوسعنا أن نفعل شيئاً» أنها تستجر سؤالاً آخر: «ماذا علينا أن نفعل، وكيف نقوي دفاعات تايوان، وكيف نستعد للحرب المقبلة؟»؛ لأن سقوط تايوان سيسمح للصين بالتمدد نحو جزر أخرى لتنحسر القوة الأميركية البحرية، ويرتفع مستوى التهديد لدول الجوار الصيني. ولذلك فإن تصريح الرئيس بايدن يؤكد أن تايوان مهمة للأمن الأميركي القومي، ولن يسمح للصين باسترجاع تايوان بالقوة، وأن أميركا لن تتراجع كما حدث في سوريا؛ لأن هذا التراجع جر أضراراً نالت من هيبة أميركا، وهزت الثقة بتحالفاتها في الشرق الأوسط.

إن الخسارة في تايوان، خلاف سوريا، ستكون فادحة جداً، وأي بادرة تردد ستكون لها تبعات في المحيطين الهندي والباسيفيكي؛ وما لا شك فيه أن تهديد بايدن باستخدام القوة نجح مؤقتاً بردع الصين وفتح، بالوقت ذاته، أعين قادتها أمام فارق القوة، ما حثهم على بناء قوة قاهرة طالما أن الحرب قادمة. فالرئيس الصيني يريد أن يترك بصمته على التاريخ، ولن يلتزم بمقولة الزعيم ماوتسي تونغ بأن الصين بوسعها أن تنتظر 100 عام لاسترجاع تايوان. ولكي يحقق ما يريد كان قراره بتحديث المؤسسة العسكرية، وتوسيع قدراتها، وبالذات دمج الصناعات المدنية بالعسكرية لكي يحصل الصينيون على أحدث أنواع التقنية الحديثة العسكرية، وقراره بترقية حزبيين لهم باع في الصناعات العسكرية والتقنية والمدنية لعضوية اللجنة المركزية، والإشراف على بناء تلك القوة؛ الحصيلة المشاهدة أن الصين مشت خطوات كبيرة في المسار التحديثي العسكري من خلال بناء سفن حربية كبيرة (ثلاث سفن حاملات للطائرات) بهدف التغلب على السيطرة الأميركية على البحار، وطورت سلاحها النووي وزادت قدراتها من خلال بناء صواريخ متطورة، وضخت البلايين في بناء وتحديث طائرات حربية مقاتلة؛ بمعنى آخر ازداد الإنفاق الصيني مؤخراً على السلاح بما يتجاوز ضعفي ما كان ينفق سابقاً رغم أن الصين تشهد منذ وباء «كورونا» تراجعاً في الأداء الاقتصادي. في هذا المناخ المتوتر يمكن فهم مضمون مذكرة قائد سلاح الجو الأميركي مايك وينهن المسربة أن أميركا والصين تتدحرجان باتجاه المواجهة العسكرية.

المواجهات العسكرية في عالم اليوم في ازدياد، فالحرب الروسية الأوكرانية سبقتها حروب في جورجيا والشيشان تحت شعارات استعادة الوزن الروسي العالمي، وقبل ذلك شنت إيران حروباً بالوكالة تحت شعار استعادة المجد الفارسي الممزوج بالدين، والآن نشهد صعود الصين وشعار استعادة تايوان، وشعار طريق الحرير، وبالمقابل نرى استيقاظ أميركا للخطر الصيني، الهادف لإزاحتها من قيادة العالم؛ لذلك كانت عودتها بقوة لمنطقة الشرق الأوسط، وتطويقها للصين في شرق آسيا، ونرى بالمقابل مزاحمة صينية لها مثل الوساطة الصينية بين المملكة وإيران، ومجموعة «بريكس»، واتفاق الصين مع موسكو بمعاهدة حدودها السماء. كل ذلك يشي أن عقدة الخوف المتحكمة بالعملاقين تزداد ومعها تتوسع دائرة التسلح والتحدي على امتداد مناطق النفوذ.

يقول الرئيس الصيني الحالي تشي إن الذين «يقدرون على القتال هم قادرون على منع الحرب، وإن الذين يستعدون للحرب لن يضطروا لأن يخوضوها»، بمعنى أننا أقوياء، ويمكن أن نسترجع ما نريد من دون حرب؛ وبالمقابل يرى الأميركيون أن أفضل سبيل لمنع الحرب إبلاغ خصمك بخطوطك الحمراء، وأنه إذا ما كنت تريد منع الحرب، كما يقول الجنرال الروماني فاغيتيوس، «استعد لها». لا شك أن أميركا لن تسلم برغبة الصين، وتقبل بهيمنتها على دول شرق آسيا، ولن تقبل الصين حتماً بأن تطوقها أميركا، وتسلبها جزيرتها، وطالما أن المطلبين متناقضان تماماً فلا يوجد حل إلا أن يعي الجانبان أن الحرب لا تقود للسلام بل إلى الدمار والخراب، وأن تعي دول العالم أن مصيرها على المحك.