توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

بين الهند والموصل: أسرار الوحدة والخصام

للوهلة الأولى تبدو فكرة تقسيم محافظة نينوى (الموصل) حلاً سحريًا للتنازعات السياسية بين سكانها، الذين ينتمون إلى جماعات مذهبية وإثنية مختلفة. كنت قد أشرت في الأسبوع الماضي إلى هذا الاقتراح، الذي تتبناه شريحة من الموصليين. ومبرر هؤلاء أن تمكين كل مجموعة عرقية أو دينية من إدارة مدينتها، سوف ينهي حالة الارتياب التي سممت العلاقة بين السكان. ولفت نظري أن قراء كثيرين وجدوا هذا الاقتراح حلاً معقولاً. تمثل «نينوى» نموذجًا مصغرًا للعراق المتنوع دينيًا ومذهبيًا وإثنيًا. هذا التنوع جعلها بؤرة للتجاذب السياسي بين قوى الداخل والخارج.
فكرة الفصل الإداري مطبقة في بلدان كثيرة. وقد تحولت في السنوات الخمس الماضية، إلى مطلب شعبي في كثير من المجتمعات العربية. لكن الاعتقاد أنها «حلالة المشكلات»، فيه تبسيط شديد لا يخفى على اللبيب.
من نافل القول إنه لا يوجد مجتمع سياسي في العالم كله، يتألف من نسيج أحادي. بمعنى أن جميع سكانه ينتمون إلى قومية واحدة ودين/ مذهب واحد. وحتى لو حصل هذا يومًا ما، فإن أبناء عائلة واحدة - فضلاً عن بلد بأكمله قد تختلف مصالحهم وتوجهاتهم الفكرية أو السياسية، فيذهب كل منهم في طريق. وفي حال كهذه، فإن وحدة الدم والانتماء ستكون مجرد رابطة ثانوية، ضئيلة التأثير على الخيارات الحياتية للأفراد. وهذا أمر مشهود في عالم اليوم.
من هنا، فإنه من غير المنطقي، الاعتقاد أن مشكل الاختلاف والتنازع سينتهي، إذا أعدنا تشكيل الجغرافيا السياسية على أساس وحدات عرقية أو دينية متمايزة. إن وحدة الدين أو المذهب أو القبيلة أو العرق أو الجنس، ليست أساسًا كافيًا لتوحيد المصالح السياسية والحياتية، فضلاً عن صيانتها على مدى زمني طويل.
لعل المقارنة بين البلدين الحاليين، الهند وباكستان، تكشف هذه المفارقة في أجلى صورها. يعترف الدستور الهندي بـ21 لغة، إضافة إلى الإنجليزية. وهناك عشرات أخرى من اللغات واللهجات المحلية. ويرجع الشعب الهندي إلى أعراق كثيرة. وثمة خمسة أديان رئيسية، إلا أن عدد الديانات والطوائف القائمة فعلاً، يزيد على 300 دين ومذهب. لكن الوحدة الوطنية لجمهورية الهند لم تتعرض لتحدٍ خطير منذ تأسيسها في 1947.
أما باكستان التي تأسست في العام نفسه، فهي تواجه منذئذ نزاعات داخلية متلاحقة. وقد انفصل نصفها الشرقي في 1971. يشكل المسلمون أغلبية ساحقة في باكستان، والنظام فيها فيدرالي مقسم إلى أربع ولايات، تضم كل منها أغلبية من قومية واحدة.
قارن الآن بين البلدين من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي والحراك العلمي والتقني. واسأل نفسك: ما الذي يجعل الهند، المتعددة الأديان والأعراق واللغات، مستقرة وناهضة، بينما تغوص جارتها الأحادية الدين واللغة، في مشكلات ونزاعات داخلية لا تنتهي؟
الاختلاف الديني أو المذهبي أو العرقي، يمكن أن يتسبب في تنازع داخلي. لكننا نعلم أن هذا ليس سبب انعدام الاستقرار في باكستان، ولا هو سبب الحرب الأهلية في ليبيا. فضلاً عن أنه لم يتسبب في انهيار وحدة الهند ولا ماليزيا ولا سنغافورة، ولا الولايات المتحدة الأميركية.
سر الوحدة الوطنية لا يكمن في التماثل، بل في طبيعة النظام السياسي: هل هو قائم على استفراد جماعة قومية أو دينية بمقدرات البلد، أم هو قائم على شراكة الجميع في جميع المكاسب والكلف؟ طبيعة النظام السياسي وفلسفته هي جوهر المسألة.