عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أنجلينا جولي والسودان... وماكرون وروسيا

على مدى أسابيع انشغل كثير من السودانيين في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي عدد من الصحف والمواقع الإخبارية الإنترنتية، بخبر عن زيارة يفترض أن تقوم بها هذا الشهر نجمة هوليوود أنجلينا جولي للسودان، لتصوير فيلم قيل إن اسمه «من هنا يبدأ التاريخ»، ويحكي عن الحضارة السودانية القديمة ويركز على حضارة مملكة كوش، وعلى مناطق الآثار والأهرامات في شمال السودان. وطغت صور أنجلينا جولي بالطبع على الأخبار المتناقلة، علماً بأن الفيلم كما قيل سيكون أيضاً من بطولة النجم العالمي الشهير ليوناردو دي كابريو.
أثار الموضوع كثيراً من الاهتمام، وشيئاً من الجدل أيضاً. فالقصة هنا ليست في اختيار النجمين اللذين يتمتعان بشعبية كبيرة من شأنها أن تجذب الاهتمام، بل في موضوع الفيلم وعنوانه، لأنه يبني على الحساسيات التي برزت بشدة أخيراً بين مصر والسودان، وما أعقبها من تراشقات سودانية - مصرية، لا تزال العلاقات بين البلدين تعاني من آثارها.
بعض المعلقين المصريين ابتلعوا الطعم وراحوا يتناقلون القصة من زاوية «تاريخ من هو الأقدم، وأهرامات من هي الأكبر»، ويسخرون من اسم الفيلم المفترض ومغزاه. ولحسن الحظ كان المعلقون من جانب الإعلاميين المصريين قلة محدودة وضئيلة، وليس كما حدث إبان الضجة التي أحدثتها زيارة الشيخة موزا. فالعلاقات بين السودان ومصر تمر اليوم بمرحلة غريبة من الشد، تجعل المرء يخاف عليها من تأثير الكلام الطائش، والتعبئة الإنترنتية.
خبر الفيلم تناقلته كذلك وسائل إعلامية عربية أخرى، وأوردته كما هو من دون أن تتكبد عناء البحث والتدقيق والتقصي؛ لتسهم بذلك في أجواء الضجة والإثارة حول القصة. لكن بعض الذين اجتهدوا لاحقاً حصلوا على نفي لبعض التفاصيل مثل تلك المتعلقة بالتمويل الذي ذكر أنه سيكون من قطر. فقد أوردت بعض المواقع نفياً من وزارة الثقافة والرياضة القطرية، ومن مؤسسة الدوحة للأفلام اللتين قالتا إنه لا علاقة لهما بالفيلم أو بتمويله. وأول من أمس، بعد أسابيع من الضجة المتواصلة حول القصة، نشرت صحيفة «آخر لحظة» في الخرطوم نفياً من «مصدر رفيع» في وزارة السياحة السودانية يقول فيه إن الوزارة لا علم لها بزيارة أنجلينا جولي للسودان في 25 مايو (أيار) الحالي لتصوير فيلم. واعتبرت الوزارة أن الموضوع كله «كلام واتساب»!
هل تنتهي الضجة هنا؟
الأرجح أننا سنشهد فصولاً وأفلاماً أخرى ما دام الناس، أو فلنقل أغلبيتهم، يتناقلون «كلام الواتساب» على عواهنه، من دون تريث أو تمحيص. فطوال الضجة حول الفيلم المفترض كان النابهون الذين أثاروا أسئلة حول مدى صحته وجديته هم الأقلية. أسئلة بديهية من نوع من هو كاتب القصة والسيناريو؟ ومتى تم الإعداد للفيلم والتعاقد مع أبطاله العالميين، لأن أحداً لم يسمع عنه شيئاً إلا قبل أسابيع، وكيف كتبت القصة وتم الإعداد وبدأ التصوير في أقل من شهرين؟
«الأخبار المفبركة» أصبحت في عصر الإنترنت وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، قضية خطيرة كبرى تشغل العالم وحكوماته. الأمثلة كثيرة وفي مجالات متنوعة، لعل أهمها كان في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما صاحبها من جدل حول تأثير الاختراقات والتسريبات الإنترنتية على نتيجتها، وما أعقبها من تحقيقات مستمرة بشأن التدخل الروسي في حرب التسريبات، وبشأن الاتصالات بين بعض أعضاء فريق دونالد ترمب وروسيا. أما آخر النماذج فقد كان في انتخابات الرئاسة الفرنسية التي حسمت الأحد الماضي بفوز إيمانويل ماكرون على منافسته مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف. ففي آخر أيام الحملة الانتخابية أعلن أن حزب ماكرون تعرض لعملية قرصنة واسعة، يعتقد أنها روسية، وأن كمية من الوثائق الأصلية التي سرقت نشرت على الإنترنت وحشر بينها عدد من الوثائق المزيفة بهدف التضليل. الدرس المهم هنا أن الفرنسيين استوعبوا ما حدث في الانتخابات الأميركية، وسعوا بالتالي إلى الحد من تأثير التسريبات والأخبار المفبركة. وبينما تجاوبت وسائل الإعلام الفرنسية مع الدعوة للامتناع عن نشر الوثائق «المقرصنة»، فإن التنسيق مع مسؤولي «فيسبوك» أدى لحجب وإزالة 30 ألف حساب «مزيف» على شبكة التواصل الاجتماعي كان يمكن أن تستخدم في بث الأخبار والمعلومات المضللة الموجهة للتأثير على الرأي العام الفرنسي قبل الانتخابات.
قصة الفيلم السوداني قد تبدو بسيطة وساذجة، بالمقارنة مع موضوع التدخل في الانتخابات الفرنسية أو الأميركية، لكن الرسالة واحدة، وهي أننا نواجه اليوم حرباً مختلفة وبوسائل جديدة للتأثير على الرأي العام، وهي حرب ستكون بالتأكيد أخطر مما عهدناه قبل عصر الإنترنت الذي يطرح تحديات كبرى، مثلما يقدم فرصاً ما زال العالم يحاول أن يتكيف معها.