مع أن تجربة الستة أعوام الماضية، منذ انفجار الأزمة السورية، قد بدّدت الثقة بالمسؤولين الروس، من فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف وميخائيل بغدانوف وحتى أصغر موظف في الكرملين، فإنّه في ضوء مستجدات ما بعد مجيء هذه الإدارة الأميركية التي على رأسها دونالد ترمب إلى البيت الأبيض بات بالإمكان الإحساس، وإن بحذر، بأن هناك بداية تحوّل في الموقف الروسي تجاه «عقدة» رحيل بشار الأسد وتخلّيه عن موقعه والإسراع بتطبيق «المرحلة الانتقالية» وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
هناك مثل يقول إن «أشعة الشمس قد تسبب العمى في بعض الأحيان»، ولهذا وعندما يسارع سيرغي لافروف، بعد إعلان استعداد موسكو للتعاون مع واشنطن إلى آخر مدى بالنسبة للشأن السوري، إلى تكرار ما بقي يردّدهُ منذ انفجار الأزمة السورية في عام 2011 ويشدد على ضرورة توحيد الجهود لمحاربة الإرهاب والقضاء عليه ومن دون أنْ يربط هذا كله بـ«حل المشكلة السورية» فإن هذا يثير الشكوك بالفعل ويعزز الاعتقاد بأن هذه المرونة الروسية الطارئة مجرد مناورة للتلاعب بعامل الوقت وإن كل شيء لا يزال على ما هو عليه.
إن أي تحولٍ جدي في الموقف الروسي إزاء التخلي عن بقاء بشار الأسد في موقعه رئيسا للدولة السورية يجب أن يبدأ بوقف هذه الغارات الروسية والسورية أيضاً التي لم تتوقف ولا للحظة واحدة، خلافاً لكل ما اتفق عليه في لقاءات واجتماعات الـ«آستانة» التي من المفترض أن تكون تجددت أمس الأربعاء، وأيضاً بوقف عمليات الترحيل الإجباري للسوريين من قراهم ومدنهم ونقلهم إلى مناطق جديدة من بينها إدلب وفي إطار سياسة تغيير «ديموغرافي» اتخذ طابع إنشاء «مستوطنات» للإيرانيين والأفغان، على أسس مذهبية وطائفية، تشبه المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية الفلسطينية.
«أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أتْعجب»... ويقيناً إنه لا يمكن اعتبار بدايات هذا التحول الروسي فعليا وجديا ما لم يتم وقف إطلاق النار في سوريا وبصورة كاملة وشاملة وما لم يتم «ضبط» هذا الاحتلال العسكري - الميليشياوي الإيراني للأراضي السورية، وكخطوة جدية لمغادرة الإيرانيين ومعهم «حزب الله» اللبناني وأكثر من ثمانين تنظيما طائفياً بالأراضي السورية ليصبح بالإمكان البدء بتنفيذ «المرحلة الانتقالية» وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
في كلّ الأحوال فإنه - وعلى أساس -: «تفاءلوا بالخير تجدوه» لا بد من التعاطي مع تصريح لافروف الذي قال فيه إن «الروس مستعدون للتعاون مع واشنطن بشأن سوريا وإلى آخر مدى» وبخاصة أن وسائل إعلامية معتبرة وجدية وموثوقة قد نقلت عن مسؤولين روس، لم تسمهم، أنهم سألوا بعض كبار المعنيين في إدارة دونالد ترمب عن الأسماء التي يرشحونها بديلا لبشار الأسد... وحقيقة أن هذا السؤال نفسه بقي متداولا في عواصم عربية وغربية معنية كثيرة وأنه غير مستبعد أنّ حتى بوتين نفسه قد طرحه على وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون عندما التقاه، بعد تمنّع استعراضي، خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو التي ستكشف قادمات الأيام عن كم أنها كانت زيارة في غاية الأهمية.
كان قد نُقل، قبل فترة، عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، الذي هو المهندس الفعلي والحقيقي لسياسة بلاده تجاه الأزمة السورية، وإن بصمت ومن وراء ستار، قوله إن روسيا عندما تدخّلت عسكرياً في سوريا في نهايات عام 2015 لم تكن تعتقد أنها ستبقى كل هذه الفترة الطويلة وحيث أصبحت أمام خيار في غاية الصعوبة إذْ إنها لم تعد قادرة لا على الانسحاب ولا على البقاء بلا أي نهاية، وهذا يعني أن الروس قد يكونون جادين فعلاً عندما يسألون الأميركيين وربما غيرهم عمّا إذا كانت لديهم أسماء يرشحونها بوصفها بديلا لبشار الأسد الذي من المؤكد أنه إذا فقد الدعم الروسي فإنه راحل لا محالة، وحتى وإن جاء علي خامنئي إلى دمشق ليقيم معه في القصر الجمهوري، وحتى وإن نقل الإيرانيون باقي ما تبقى من حراس ثورتهم ومن قواتهم لترابط حول العاصمة السورية.
في كل الأحوال لنفترض أنَّ الروس كانوا جادين عندما أعلنوا استعدادهم، بلسان وزير خارجيتهم سيرغي لافروف، للتعاون «وإلى آخر مدى» مع واشنطن بشأن سوريا وأنه صحيح أيضاً أنهم سألوا الأميركيين... وسألوا غيرهم عن الأسماء التي يرشحونها بديلا لبشار الأسد... فمن البديل يا ترى إذا وقعت الواقعة واتفقت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ومعها بعض الدول والعواصم المعنية على أنَّ معادلة إمّا هذا الرئيس السوري وإما «داعش» قد انتهت، وإنه من أجل الحفاظ على وحدة سوريا واستقرار هذه المنطقة لا بد من التخلص من الاثنين معاً...؟!
إنَّ المعروف - ربما للبعض وليس للكل - أن كل هذه المسيرة العسيرة الطويلة لهذا البلد العربي، سوريا، منذ انهيار تجربة الوحدة مروراً بحكم «الانفصال» وصولاً إلى انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 البعثي الذي اعتبر ثورة شعبية تقدمية ووحدوية، وإلى انقلاب الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 وانتهاءً بانقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970، كانت قد بدأت بتشكيل خمسة من الضباط السوريين، الذين كانوا مقيمين في القاهرة «منفيين» عملياً، لجنة سرية خماسية، ثلاثة من أعضائها من الطائفة العلوية هم: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد الذي كان أصغرهم رتبة، واثنان من الطائفة الإسماعيلية هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير.
وحقيقة أن «التصفيات» بين هؤلاء ومعهم من انضموا إليهم لاحقاً بعد ثورة عام 1963 مثل أمين الحافظ وسليم حاطوم قد بدأت مبكراً حيث تحالف صلاح جديد وحافظ الأسد للتخلص من محمد عمران الذي كان أعلاهم رتبة والذي كان رئيس لجنتهم السرية آنفة الذكر، ثمّ تمّ التخلص من أمين الحافظ وسليم حاطوم، ثم في عام 1970 تخلص الأسد من صلاح جديد بوضعه في السجن إلى أن مات خلف باب زنزانته في سجن المزة كما تخلص من كل «جماعته» في القوات المسلحة... وهكذا فقد استمرت هذه «التصفيات» باغتيال محمد عمران في طرابلس اللبنانية عام 1972 والتخلص من كل ضباطه وتكتله كله... ثم تخلص حافظ الأسد من شقيقه رفعت وجماعته... ثم تخلص بشار الأسد من معظم جماعة والده ومن بينهم غازي كنعنان ورستم غزالة... كما تخلص من كل ما يسمى المجموعة الأمنية في تفجير الروضة في الثامن عشر من يوليو (تموز) 2012، وزير الدفاع داود راجحة ونائبه آصف شوكت ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار ورئيس إدارة خلية الأزمة حسن تركماني.
لكن هذا لا يعني أنه لم يعد هناك أي بديل لبشار الأسد لا من ضباط القوات المسلحة ولا من المدنيين... ولا من الطائفة العلوية التي كان لها نصيب الأكبر في كل هذه التصفيات السابقة واللاحقة، ولا من الطائفة السنية والطوائف الأخرى كالإسماعيليين والدروز... وأيضاً كالأكراد والمسيحيين... والشيعة على قلتهم.
ربما لا يعرف كثير أن حافظ الأسد الذي كان يعتبر أن أكبر خطر يهدده هو خطر الطائفة العلوية قد تخلص مبكراً من كل مناوئيه الذين يشكلون ثقلاً فعليا في هذه الطائفة، وأهمهم محمد عمران وصلاح جديد ومئات كبار الضباط من مناصريهما، لكن هذا لا يعني أن سوريا أصبحت قفراً وغير قادرة على إيجاد بديل لبشار الأسد الذي وصل إلى ما وصل إليه بـ«ضربة حظ» ولأن حادثا مأساويا قد أخذ من أمامه شقيقه الأكبر باسل ولأن عمليات «التصفية» المتواصلة قد أخذت من طريقه كل المناوئين الذين كلهم وليس بعضهم يتفوقون عليه في كل شيء... وهكذا، وفي النهاية، فإن المؤكد أن الروس لديهم أكثر من بديل وكذلك الأمر بالنسبة للأميركيين والأفضل أن يكون هذا البديل في المرحلة الانتقالية من غير الملطخة أيديهم بدماء السوريين من أبناء الطائفة العلوية.
TT
هل فعلاً أصبح الروس يبحثون عن بديل للأسد؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة