نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أول الحب وآخره

ارتبط الفلسطينيون مع الأميركيين بقصة حب طويلة، أختار بداية لها عهد الرئيس بوش الأب وشريكه جيمس بيكر، واستمرت إلى عهد سيد «الفاميلي بيزنيس» دونالد ترمب وصهره كوشنير.
ولقد امتدت قصة الحب هذه على مدى عقود، أولها دائماً كان حباً جارفاً، وغزلاً نادراً وحميماً. أول الحب أنتج مؤتمر مدريد، حين تمكن الرجلان القويان من إحضار شامير إلى بيت الطاعة على كره منه، وإحضار حافظ الأسد الكاره للفكرة من أساسها، وإحضار ياسر عرفات الذي وضعت بينه وبين وفده ستارة رقيقة.
كانت بداية زاهرة طردت اليأس من نفوس الفلسطينيين، وأحلّت محله أملاً بأن المستحيل صار ممكناً، فإن لم تفعلها أميركا فمن يفعلها إذن؟
كان هذا أول الحب، أمّا آخره فقد أسدلت عليه ستارة بائسة، إذ سقط صاحبا المشروع واندثر حبهما إلى لا نتيجة، تسلّم الرئاسة منافسهما الشاب العاشق الوسيم، فاستأنف حكاية الحب حتى أنه زار غزة والضفة وتوسط لدى نتنياهو لإطلاق سراح أسيرين لأسباب إنسانية، وحين قاربت ولايته على النهاية، نظم مؤتمر كامب ديفيد الذي انتهى إلى خلاصة مأساوية، ليس فقط توقف مشروع السلام، وإنما التحول إلى عكسه، فاشتعلت حرب لم تتوقف حتى الآن، تارة بالحجارة وتارة أخرى بالمتفجرات، ودائماً بتبادل عداء يتعمق ويتسع كل يوم. كان هذا آخر الحب المختلف عن أوله.
ذهب كلينتون، لم يحظَ بجائزة نوبل للسلام، وأتى بعده جورج بوش الابن، فأنعش أول الحب مع الفلسطينيين، لم يكتفِ بالتعهد والاستعداد لبذل الجهود، بل رفع الأمور إلى مستوى الذرى، إذ أعلن عن تلقيه أمراً إلهياً بإنصاف الفلسطينيين وإنهاء معاناتهم، وإقامة دولتهم، وقبل أن يغادر البيت الأبيض، نظم حفلاً تأبينياً للسلام في أنابوليس، ودعا إليه الجميع، لم ينسَ أحداً من المنطقة وخارجها، ولو كان مسلماً لاستشهد بخطبة نبينا الكريم «اليوم أتمتت لكم». وغادر البيت الأبيض ليسجل نهاية مأساوية اختلف فيها آخر الحب عن أوله.
كان الحصان الأسود يتربص بالبيت الأبيض، ولما وصل إلى نهاية السباق الرئاسي بفوز مظفر، أعاد أول الحب إلى القلب واللسان، ولأول مرة في التاريخ تتحول جائزة نوبل للسلام، من جائزة تقديرية للإنجاز، إلى جائزة تشجيعية للنوايا. جاء إلى عواصم الشرق الأوسط، وأطلق وعده بمصالحة تاريخية، تتوج بحل تاريخي لمعضلة الصراع العربي الإسرائيلي وجذره الفلسطيني.
مرّت الأيام والسنوات، ومرة أخرى اختلف آخر الحب عن أوله، أثبت الحصان الأسود أنه بارع في رفع الآخرين إلى أعلى الشجرة، ولكنه أكثر براعة في التخلي عنهم، فأدار ظهره لعش الدبابير، وأسند مقاولة السلام المستحيل لوزير خارجيته الهادئ واللين والمتسامح، ولمرة أخرى صار آخر الحب مختلفاً عن أوله.
والآن... وفي البيت الأبيض محبٌ جديد للفلسطينيين، ومقاول واعد لإقامة برج السلام على الرمال المتحركة، فهو بعد تمنع يستقبل رئيس الفلسطينيين، وبعد جفاء لأسلافه سيأتي إلى عش الدبابير بعد شهر، مرتدياً قفازات واقية، ولأن الرئيس ترمب يتمتع بفضيلة عدم المعرفة بكل ما سبق، وليس لديه الوقت الكافي لقراءة معجم السلام المستحيل بملايين صفحاته ووقائعه، فيبدو أنه لن يخرج عن معادلة أول الحب التي اندفع إليها أسلافه، ونسأل الله أن يفلت من هذا.