يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

درس أفغانستان لم يقرأ بعد

في تصريح لافت وإن جاء متأخراً طالب زعيم الحزب الإسلامي في أفغانستان قلب الدين حكمتيار حركة طالبان بالانضمام إلى عملية المصالحة في بلاده في اجتماع مع مؤيديه بمدينة مَهترلام عاصمة ولاية لغمان شرقي البلاد مصرحاً: «الحرب في أفغانستان غير مبررة، والمواطن هو من يدفع ثمن هذه الحرب»، هذا التصريح سبقه إجراء تصالحي من قبل الأمم المتحدة قبل أشهر، وذلك برفع اسمه من قائمة العقوبات وتمكينه من العودة إلى أفغانستان، وسط تحديات سياسة وأمنية غير مسبوقة في أفغانستان.
النخبة الأفغانية الحاكمة والسياسية تلقت عودة حكمتيار بالترحيب بعد أن أرهقتها الحرب الأهلية التي دفع الشعب الأفغاني المسلم ثمنها أكثر مما فعلت به القوات السوفياتية المحتلة، وهو أمر لا يوده المحبون للمرحلة الأفغانية باعتبارها نوستالجيا الحنين إلى حقبة «الجهاد الشرعي» كما يطلق عليها الآن، بعد أن اختطفت الجماعات المسلحة التي جاءت لاحقاً منذ تحول «القاعدة» إلى الأممية وظهور «داعش» وفي المقابل انبعاث الميليشيات الشيعية، مفهومَ الجهاد في الجانب السني والمقاومة في الجانب الشيعي.
أربعة عقود من الصراع في أفغانستان وما زالت البلاد تراوح في نقطة الصفر دون أن تحظى بالسلام والأمن، رغم تعاقب الاستراتيجيات الدولية في محاولة للخروج من الأزمة، بل تشكل العودة إلى أمراء الحرب نقطة انتكاسة كبيرة تدل على فشل إيجاد نخبة سياسية جديدة تتجاوز إرث الدم والدمار بعد كل هذه السنوات، فالحزب الإسلامي الذي يقوده حكمتيار ساهم في التاريخ القريب مطلع التسعينات ما بعد ما سمي فتح كابل وحتى 1996 في قتل الآلاف، حتى وصف بجزار كابل، إلا أن المصالحة مع حكومة كابل اليوم تشكل للأفغان بصيص أمل للخروج من هيمنة طالبان رغم كل الضربات الأميركية على المشهد العنفي في أفغانستان ورغم انحسار المقاتلين الأجانب وانتقالهم إلى مناطق توتر أخرى، بل ودخول جماعات أخرى مزاحمة لنفوذ طالبان وعلى رأسها «داعش» الذي يحاول استمالة طالبان لتعمل تحت مظلته.
حكمتيار كان مهندس التعبئة على الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، حيث رفض الانضمام إلى الحكومة الجديدة، بل وأعلن «الجهاد» ضد القوات الأجنبية التي ترى فيه اليوم أهون السيئين، في إشارة واضحة إلى أنه من الصعب تجاوز إرث الحرب وزعمائها عند أي تسويات جديدة، في بلدان أصبح العنف جزءا من بنيتها السياسية، باعتبار أن كل الصيغ السياسية التي تعقب الحروب تستهدف الكتل المؤثرة والقوية، وهي في الغالب في بلدان العالم الثالث تنظيمات مسلحة عسكرية تقوم على فكرة الميليشيا والدولة داخل الدولة.
لم يكن حكمتيار الوحيد الذي سيحظى بحصانة المفاهمة السياسية الجيدة، بل ثمة الكثير من أمراء الحرب السابقين اتهموا وما زالوا بانتهاكات كبيرة في ملف حقوق الإنسان، وبعضهم يشغل مناصب رسمية.
عودة أمراء الحرب إلى الواجهة السياسية تعني تراجعاً كبيراً في سياسات الدول الكبرى والمؤسسات الدولية في مسؤوليتها عن إدارة الصراع في بلد مثقل بتاريخ دموي استمر لعقود كأفغانستان، وهي سياسات تهتم بتحويل الصراع إلى شكله المحلي وتخليصه من طابع العالمية باستبعاد المقاتلين الأجانب ثم التعامل مع الوضع على طريقة الأمر الواقع بقبول القوى السياسية - العسكرية كواقع مفروض لا يمكن تجنبه للخروج من الأزمة، وهو أمر شهدناه في معالجة الولايات المتحدة لتدخلاتها في مناطق متعددة، ومنها الصومال الذي مارست فيه أكبر قدر من الواقعية بقبول الواقع السياسي حتى لو كان متطرفاً باعتباره خيار الصوماليين أنفسهم.
الأزمة في أفغانستان أكبر من قدرة الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية على احتوائها، لا سيما بعد أن فشلت مشاريع التنمية وأصبحت مقتصرة على طوق صغير يشمل المؤسسات الرسمية في كابل، وإعادة حكمتيار وأمراء الحرب إلى المشهد الأفغاني هي رد فعل تجاه إعلان حركة طالبان الأفغانية سلسلة هجمات الربيع الجديدة تحت اسم «هجمات منصوري» نسبة إلى اسم الملا أختر منصور الزعيم السابق لحركة طالبان الأفغانية، الحركة أعلنت أنها ستشن هجماتها على مرحلتين عبر تقديم الدعم والحماية للمدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرتها ومرحلة عسكرية ثانية تعتمد على توسيع نفوذها في البلاد عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الأفغانية من خلال العلميات الانتحارية وعمليات الاغتيال وحرب العصابات، وقد يصل الأمر إلى أكثر من ذلك، بحسب تصريحات طالبان الأخيرة.
اللافت في الأمر أن الولايات المتحدة مؤخراً اتهمت روسيا بتسليح طالبان، وفي ذات السياق اندلعت حروب تصفية بين الحركة وبين تنظيم داعش الذي يريد أن يضع قدمه في الأراضي الأفغانية، وقام مؤخراً بقتل قائد ميداني في حركة طالبان، مولوي داود، وذلك في محاولة من «داعش» للتعبئة والاستفادة من رمزية التاريخ الأفغاني، إضافة إلى استراتيجيته الجديدة في توسيع مناطق التوتر بعد التضييق عليه في حدود دولته المزعومة في العراق والشام، ومخاطر انتقاله إلى اليمن أو عودة المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية، بعد أن استفاق العالم على ملف العائدين من أفغانستان والشيشان والصومال وكل الحروب التي خاضتها التنظيمات الإرهابية التي لا تستطيع البقاء طويلاً بعد التسويات السياسية.
هناك أزمة حقيقية في التعامل مع المناطق المنكوبة بالصراعات الأهلية والإرهاب والحروب وتجارة الأسلحة وانعدام الأمن من قبل المؤسسات الدولية التي تتحول في أفضل الأحوال إلى منظمات توفيق بين أمراء الحروب وتوزيع الإغاثات، في حين أن هذه المناطق بحاجة إلى مفاهمات دولية واستعانة بالدول الإسلامية، كما أن واقع هذه البلدان التي خاضت عقوداً من الحروب العبثية يقودنا إلى سؤال عن واقع منطقتنا التي تعاني من المقامرة بها وبقاء مسببات الإرهاب والأنظمة الدموية المهيئة لبقائه باسم المقاومة والممانعة، درس أفغانستان لم يقرأ بعد، لا في مرحلة الاحتلال السوفياتي، ولا ما بعد فتح كابل وطالبان وعودة أمراء الحرب من جديد.