د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

العالم يُناقض نفسه

لا شك في أن التناقض ظاهرة تُسير الذات البشريّة والجماعات والمجتمعات، إلى درجة يمكن فيها القول: إن التناقض طبيعة إنسانيّة واجتماعيّة وخاصّة وعامّة.
ولا مناص في هذا السياق من الاسترسال في مسألة التناقض، من ملاحظة أن أغلب مساعي محاولات الفهم والتفسير لسلوك الأفراد وللظواهر الاجتماعية وللمشكلات المهيمنة في العلاقات الدولية اليوم، إنّما تندرج ضمن تفكيك التناقض، وفهم أسرار التشابك بين القول والفعل والادعاء والاستبطان.
سنحصر هذا الموضوع أكثر، وسنحاول تبسيطه قدر الإمكان: منذ عقود والعالم يُمجد خطاب الانفتاح ويُجند لذلك المال والعقول، ولكن في الوقت نفسه وفي مقابل ذلك، هناك تمجيد للانغلاق.
ومنذ عقود طويلة أيضا والعالم يُمجد خطاب حقوق الإنسان والحرية والحريات، وأيضا في الوقت ذاته نجد سلوكيات العنصرية والكراهية والإبادة المتعددة الأشكال والمعاني.
إن توازي هذه الأفكار وصراعها المتواصل أربك العالم، وجعل كفة التوتر والحروب تميل ضد كفة السلم والسلام. وهو وضع يعرف مستوى صعبا من التناقض والالتباس، الشيء الذي أربك الجميع وأضفى على العالم مسحة قاتمة انعكست بدورها على نفسية الفرد وعلى العلاقات بين الناس والثقافات والحضارات.
لنتوقف عند مسألة الانفتاح على قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، فقد جند أصحاب القرار في العالم من خلال المنظمات الدوليّة الإمكانيات المالية، وأصبحت الجمعيات في عدد أشجار الكون، وتم تسخير الخبراء والميزانيات وأموال هائلة للدعم والتأطير.
ولقد أثمرت هذه الجهود وأصبح هناك في العالم جبهة قويّة وأساسيّة تسمى المجتمع المدني، وهي الجبهة التي أسهمت بقوة في تغيير الأوضاع في العالم العربي الإسلامي، الحديث العهد على المجتمع المدني.
لذلك، فإنه في السياقات العربية لطالما كان هناك نوع من الريبة إزاء بعض ممثلي المجتمع المدني، ويعتبرون أن الازدياد الهائل للمنظمات والجمعيات وإنفاق الغرب على برامجها وتأطيره لها، رغم ما تعرفه البلدان الغربية من مشكلات اقتصادية، إنما هو دليل استخدام القوى الغربية لكثير من ممثلي المجتمع المدني لتمرير ثقافته وأجندته، ومن ثَم فنحن أمام نوع من التدخل ولكنه مُقنّع، ويحمل شارة المجتمع المدني ويرفع شعار الحريات.
طبعا لا نستطيع أن ننكر أن خطاب الانفتاح والتحرير الثقافي قد أعطى أكله في بعض النواحي بشكل إيجابي، وأن العالم القوي كان ذكيا بشكل زاوج فيه بين التدخل لصالح مصالحه ولصالح مصلحتنا أيضا.
فالنضال من أجل الدفاع عن الحريات وحرية التعبير، وتحسين الوضع التشريعي والاجتماعي للمرأة العربية المسلمة، وأيضا مساندة المعارضة في الحقول السياسية العربية، وممثلي الأقليات العرقية والإثنية في الانتصار لحقوقهم الثقافية... كل هذا لا يمكن إنكاره.
ولعل الاتفاقيات الدوليّة في مجال عدم التمييز ضد المرأة، ما كانت لتكون على ما هي عليه اليوم لولا ضغوطات القوى الكبرى، ووضع الخطوات في مجال التحديث والديمقراطية والمواطنة شروط تعامل دولي وبنداً من بنود التفاوض الدولي.
وفي الحقيقة هناك مواطن جديّة واضحة في هذا السياق. بمعنى أن الإرادة الدولية تفطنت إلى ضرورة سد الفجوة بين مجتمعات العالم في مجالات إنسانية محضة، مثل التمييز العنصري أو العرقي أو بين الجنسين. وهي نقاط تحسب لفائدة عَرّابي التحديث.
ولكن في مقابل ذلك، نجد أنه في العقدين الأخيرين، وتحديداً منذ تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بقدر ما ارتفعت نبرة الدعوة إلى تحرير البلدان العربية الإسلامية من الحكم الشمولي، ومن الرقابة في مجال الحريات والدفاع عن الحق في حرية التعبير والنقد والمعارضة، بقدر ما ارتفعت حدة خطاب كراهية المسلمين وحشرهم في مجموعة من الأفكار المسبقة. بل إنه مع ازدياد الأحداث الإرهابية وظهور الشبكات الإرهابية غير معلومة المساند الحقيقي لها، لاحظنا تنامي التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة في العالم الغربي.
وأصبح الحزب أو السياسي الذي يتبنى خطابا يدعو فيه إلى طرد المهاجرين وغلق الحدود في وجه العرب والمسلمين، هو الحزب الذي يحظى بأكثر نسبة تصويت. ولعل الأجواء السياسية والتحضيرات للانتخابات في فرنسا خير مثال على ما ذهبنا إليه، حيث إنه قبل أشهر فازت ماري لوبان في الانتخابات البلدية بنسبة عالية لأول مرة في تاريخها، ورأينا كيف كان خطاب حزبها لا يمثل إلا الأقلية، فأصبح يعبر عن موقف ملايين من الناخبين الفرنسيين.
إن هذا التصادم بين خطابين متعارضين تماماً، وبشكل تؤطره مؤسسات وأحزاب وقوى مهيكلة، إنما بصدد تدمير ما استطاع العالم بقصد أو دونه تحقيقه في مجال الانفتاح، ذلك أن الأفكار الهدامة للانفتاح على الغير أكثر قوة، وتجد لها طريقاً سهلة للمرور والتأثير.