ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

رسالة الوابلي والميمان لقادة الرأي

احتفل في الدمام (شرق السعودية) قبل أيام بذكرى الكاتب السعودي الدكتور عبد الرحمن الوابلي. الحفل أقيم بمبادرة من «منتدى الثلاثاء»، واحتضنته جمعية الثقافة والفنون، والحضور المميز للحفل كرّم في شخصية الوابلي روحه الوطنية العابرة فوق الانقسامات، ومشروعه الفكري المنحاز لقيم العدالة والتسامح والتعايش والتآخي.
مضى عام على وفاة الوابلي، وذكراه ما زالت طريّة، ومكانه ما زال شاغراً. نتذكر أيضاً أننا خسرنا قبل أيام كاتباً مشابهاً للوابلي هو الراحل ثامر الميمان، كلاهما سخّر قلمه دفاعاً عن أمانة الكلمة، وحمل هموم الناس، وانحاز لصلاح الأرض ونهضة الإنسان.
كتب عبد الرحمن الوابلي مئات المقالات، كما قدّم أعمالاً درامية، وفيها جميعاً كان مشتغلاً بحفظ وحدة المجتمع والدفاع عن الهوية الوطنية، ومواجهة عناصر التفتيت والانقسام، والدعوة لرصّ الصف، ومواجهة أفكار التشدد والظلامية، واختار الذود عن حياض الوحدة الوطنية مهما كلفه ذلك من مشاق.
ما يجعل الوابلي والميمان متميزين ونادرين أيضاً هو أنهما يعيان جيداً أمانة الكلمة وخطورتها ومسؤوليتها، ويشعران بأهمية الظرف الزماني الصعب الذي نعيش فيه، لم يكونا - حال الكثير من المثقفين - الذين أصبحوا جزءاً من المشكلة التي نعاني منها اليوم؛ يثيرون الهزيمة، ويحّرضون على العنف، ويدعون للعصبية.
في ذروة الاشتباك الثقافي، كان عبد الرحمن الوابلي مبادراً لتفكيك العقد قبل أن تتحول إلى أزمات، وسط انقسامات في عموم المشهد العربي لا يكتفي المثقفون بالتفرج عليها، بل إن بعضهم يزيد النار زيتاً، بدخولهم الأعمى حلبة الصراعات ومساهمتهم في تكريس ثقافة القطيعة والانقسام والاحتراب. وثمة مثقفون تغافلوا عن مسؤوليتهم في صيانة وحدة بلادهم ومجتمعاتهم، وممارسة دورهم في تعميم ثقافة الحوار والتواصل، وردم الفجوة بين التباينات والانقسامات التي تفرزها السياسات أو تصنعها الآيديولوجيات، أو تراكمها الأهواء والمصالح، وهم ينكفئون حتى ليبدو غيابهم مريباً ومتواطئاً ومتهماً.
إننا لا نشهد دوراً طليعياً لرجال الثقافة في النقاشات الكبيرة التي تشغل الناس، وقليلون هم الذين يهمهم تطوير أدوات الحوار والنقد والتفكير المنطقي. أما ما يقلق، فهو اشتغال بعض المثقفين بإشعال نيران التعصب وتدمير التعايش السلمي. كنا نطالب المثقفين بأن يتحدثوا لكي يوجدوا فضاءات حرّة ونقية، فأصبحنا نطالب بعضهم بأن يصمت رحمة بالجمهور الذين يُدفع نحو التطرف والانغلاق.
لقد خسرنا قبل عام من الآن رجلاً شجاعاً ونادراً هو عبد الرحمن الوابلي المثقف الرصين، الذي اختار بشجاعة أن يكون حراً، وأن يخرج سطوة الفكر النسقي السائد، ويتبنى خيارات تنسجم فقط وقناعته وضميره؛ ولذلك فقد اشتغل على مشروعات ثقافية وفكرية همها الأكبر أن تعبر فوق الانقسامات، وأن تتجرأ على التعبير عن خياراتها، وأن تنظر بميزان واحد للمجتمع البشري.
وخسرنا قبل أسابيع ثامر الميمان الذي نفتقد بغيابه دور المثقف الذي يمكنه أن يبني جسور التواصل في مجتمعات ابتليت بالانقسامات حداً لا يطاق، وأصبح بعض تلك الانقسامات مهدداً للتنمية، ومعيقاً لمشروع الدولة، ومدخلاً لتسلل الخارج.
كثير من المثقفين السعوديين الذين يشبهون الوابلي والميمان، ما زالوا ينبضون بالكلمة الحرّة الصادقة التي تجعل كتاب الرأي في صحافتنا خط الدفاع الأول عن قيم التسامح والتعايش والسلوك المتحضر.