يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الإرهابيون الجدد

هناك انفصال يمكن أن يلحظه الباحث بين الخطاب الإعلامي الأوروبي في تناوله لمسألة الإرهاب وبين الخطاب البحثي الأكاديمي المنحاز للمعرفة أكثر من تكريس رد الفعل وإشباع النهم السياسي اليميني المتصاعد نحو الإدانة المباشرة للعنف المؤسلم دون تفريق بين الدوافع والشعارات.
الإرهاب الفوضوي اليوم يغزو كل العالم تقريباً، حتى تلك الدول التي لم تتماس مع شعارات الإرهابيين حول السياسة، وكان آخرها ما حدث في السويد ويحدث في مواقع مختلفة، وهو لا يعني أن الإرهاب بدوافع سياسية مبرر أو متفهم، لا سيما أنه منذ اندلاعه بشكل معولم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وتحالف «القاعدة» مع التنظيمات المحلية وتحولها إلى تيار عالمي قبل ولادة لحظة «داعش» التي تحول فيها الإرهابيون الجدد إلى أجساد مفخخة في مصلحة شعارات فحسب، «الخلافة»، و«نصرة المستضعفين» دون أن تؤثر في أي من ذلك، بل على العكس ساهمت في إعطاء المبرر للدول الكبرى في التمسك بأنظمة لا تقل إرهاباً كنظام الأسد الوحشي، خوفاً من البديل.
والحال أن «داعش» تجاوزت كل التنظيمات الإرهابية المتطرفة على مستوى السياسة ومنسوب العنف وتكنيك الانتشار والنجاح في تحويل المعركة والانكسارات الكبيرة وقرب النهاية إلى محطات تجدد في مواقع أخرى عبر استقطاب الكوادر التي تعاني من أزمة هويّة واندماج وانفصال عن واقعها الأوروبي بفضل ما تقدمه التقنية من مناخات تطرف وبيئات عنف مجانية على شبكات التواصل الاجتماعي، ولربما كانت واحدة من المفارقات أن أكثر الدول بعداً عن فضاء التطرف العام في خطابها الديني والاجتماعي كتونس هي الدولة الأكثر حضوراً على مستوى المقاتلين الأجانب العابرين للحدود في مناطق التوتر في سوريا والعراق بحسب آخر التقارير الدولية.
نحن أمام ظاهرة «الإرهابيون الجدد». وبحسب أوليفه روا المفكر الفرنسي المتخصص في ظاهرة الإسلام المعاصر والإرهاب والتطرف والملتصق بشكل أساسي بالمنطقة بحثاً وحضوراً في كتابه الصادر مؤخراً «الجهاديون الجدد»، فإن النزوح إلى التطرف ظاهرة شبابية تتأسس اليوم بمعزل عن القناعات الدينية للآباء والعائلة والسياق المجتمعي.
«جهاديو داعش»، وهو نذير خطر، تأسسوا على قطيعة تامة مع محيطهم الفكري والآيديولوجي وساهموا ليس في تحطيم الرموز الدينية العامة وإن كانت متشددة فحسب، بل نزعوا إلى بناء آيديولوجيا عنيفة قائمة على البعد النفسي أكثر منها على استلهام التجربة السابقة لمتطرفي الأمس، فيما يشبه تدمير الذاكرة أو بحسب تعبير روا «مسح اللوحة» الذي مارسه الجيش الأحمر الذي أسسه ماو تسي تونغ، وينقل عن مقاتل داعشي بريطاني، والذي صاغ دليلاً لتجنيد الشباب لمصلحة تنظيم داعش على صفحته: «عندما ننزل لشوارع لندن وباريس وواشنطن، لن نسفك دماءكم فقط، بل سندمر رموزكم، وسنمحو تاريخكم، والأكثر ألماً من ذلك هو أننا سوف ندخل أبناءكم في ديننا، وسنجعلهم في المستقبل يحملون أسماءنا ويلعنون أجدادهم».
هنا بُعد تدميري جديد للإرهابيين الجدد لا علاقة له بـ«الخلافة»، الشعار التسويقي البراق، ولا بالسياسة والملفات العالقة في المنطقة، بل هي القدرة على الوجود في أي مكان بهدف الرعب وفك الحصار عن التنظيم الذي يعاني من انشقاقات كبيرة. وهناك حوارات كثيرة عن تحولين خطرين لتنظيم داعش في الفترة الماضية؛ أولهما سعيه في محاولة استقطاب تنظيم القاعدة بهدف التحالف معه والاستفادة من كوادره بعد حرب داخلية كبيرة بين التنظيمين في مناطق التوتر وانحسار لـ«القاعدة» في مناطق أخرى لحساب «داعش»، كما هو الحال في جنوب اليمن، وهو مؤشر خطير، والثاني هو قيام قيادات التنظيم المقاتلة والكوادر الآتية من خارج مناطق التوتر بتصفية عدد كبير من المقاتلين الذين ينتمون إلى مناطق التوتر في سوريا والعراق ممن يشهدون ضعف «داعش» وتراجعه، وبالتالي يحاولون البقاء بعيداً عن الاستهداف كما يحدث في الرقة هذه الأيام.
تصورات جماعات العنف المسلح عن ذاتها وأدوارها وطريقة أدائها على الأرض وحتى طموحاتها على الأرض لا تتصل بـ«المتغير السياسي»، لذلك وضعها في سياق جماعات الإسلام السياسي باعتبار أنها الخيار الأسوأ في حال فشل التغيير السلمي مغالطة كبرى وخطيئة سياسية أفرزت لنا هذه التصورات المغلوطة التي ساهمت في تضخم ملف الإرهاب وتحوله إلى أرق عالمي تعاني منه كل دول العالم.
واللافت أنه مع تضخم وتمدد حالة الإرهاب الجديد اليوم فإن حجم البيانات المرصودة عن أسماء الإرهابيين وملفاتهم على الإنترنت بدءاً من التغريدات وحتى الحوارات في المنتديات المغلقة كلها لا تمنح فهماً أدق للدوافع، لأنها لا تعكس المحركات النفسية والهوياتية، بقدر ما تعكس الشعارات التي تستخدم لاستقطاب الكوادر الجديدة، ومن هنا يؤكد روا أن الإرهاب الجديد «ليس نتاجاً لتبني تفسيرات متطرفة للإسلام، بل ما يحدث هو إضفاء بعد إسلامي على التطرف في حد ذاته»، ومثل هذا الالتباس لا شك يجعل من الصعب جداً على السياسيين والأحزاب التي بدأت تستغل ملف العنف والإرهاب والأقليات لتدعيم موقفها السياسي حتى في الانتخابات بشكل يتفوق على البرامج السياسية الحقيقية أو الرؤى الاقتصادية لقطاعات مثل التعليم والضرائب والاندماج، إلا أن وجود مثل هذا الوعي لدى شخصيات فكرية مؤثرة في أوروبا أكثر من غيرها يعين على تجاوز خطابات اليمين الساذجة والمباشرة، هذا الوعي يمكن أن نراهن عليه في أوروبا وفرنسا التي يبدو أنها تدير ظهرها لليمين وفقاً للانتخابات الأولية.
الخلافة المزعومة بحسب روا مجرد مخيال سياسي بهدف الاستقطاب، إلا أن الإرهابيين الجدد يسعون لإقامة كيان آيديولوجي عالمي لا يحتكم إلى مجال جغرافي معين. الانتحارية الجديدة ثقافة معزولة عن حالة العسكرة العابرة للحدود التي اتخذت وصف «الجهاد» وجعلت الأمر ملتبساً في ظل تقصير المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية على انتزاع مفاهيم الإسلام المختطفة من قبل الإرهابيين الجدد، وهو دور لا يمكن أن تضطلع به الحكومات والمؤسسات الأمنية بمعزل عن التأثير الكبير للخطاب الديني الذي يعيش أيضاً تحولات هائلة على مستوى التحديات والتأثير والقضايا الجديدة ودخول منافسين جدد يطرحون رؤى دينية مغايرة عن السائد، فكما يقذف لنا الإرهاب الجديد عناصر شبابية منغمسة في حياة صاخبة فإننا بحاجة إلى خطاب ديني واجتماعي ينزل إلى مستوى الأجيال الجديدة ويعالج مشاكلهم، كما يقوم في الوقت ذاته بمعالجة الملفات العالقة منذ انشقاق الفكر المتطرف عن جسد الإسلام التاريخي، وهي مهمة مزدوجة وشاقة في وقت تتراجع فيه المؤسسات الدينية وتتصاعد فيه حالة العودة للجذور والتدين في عالم مضطرب كعالمنا اليوم.