سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عصر «م.ك»

مُعفى، والحمد لله، من عقوبة منع استخدام «الآيباد» على الرحلات العربية إلى أوروبا وأميركا وسائر ديار المعمورة، أو المسكونة، كما سماها الأهلون والأولون تمييزاً لها عن كواكب لا تُعمَّر ولا تُسكن ولا تشرّد ساكنيها في كل مَشردٍ، وتبعثرهم في كل غربة.
مُعفى، ليس بسبب الثوابت التي يعرفها القيّمون على أسفار البشر، وأهمها أنني من الجنس الخائف، لا المخيف، وأن معرفتي بـ«الآيباد» لا تتجاوز إطلاقاً البحث عن الصحف والقواميس وإعانة الذاكرة عندما تتذكر، لغاية عندها، الاسم الأول، وتنسى اسم العائلة. أو العكس. حتى الرد على رسالة، لا أعرف. وهو من دلائل التخلف، لا الافتخار. ومن دواعي الحرج.
إذن، أنا غير مشمول بالأمر اليومي الجديد، لأنني من الجنس القديم، أو السابق، أو ما يُشار إليه بـ«ق.آ»، وتعني هنا «قبل آبل»، وليس قبل الميلاد. ومن معالم ذلك الجيل، أنه ما إن ينتهي من دائرة الجوازات، حتى يتجه مباشرة إلى مكتبة المطار التي تعرض عادة آخر إصدارات الكتب، إضافة إلى أبرز الصحف والمجلات، لكن جيل «م.آ»، أي ما بعد آبل، اعتاد أن يحمل مكتبته في حقيبته: صحفه، كتبه، موسيقاه، أفلامه، وما إلى ذلك، على ما يقال.
يقول الزميل سليمان جودة في «المصري اليوم» إن الغضب الذي رافق قرار المنع يدل على أن الرجال في حالة فطام مفاجئ. وطبيعة الفطام قسرية. وإذ يزأر الغاضبون، ينسون أن الطائرة تقدم لهم خدمات ترفيهية لا مثيل لها في مكان واحد على الأرض.
تغير كل شيء في السفر، كما لاحظ الأستاذ عبد الرحمن الراشد، في تعليقه على الإجراءات الجديدة. لم يعد أهلك وأصدقاؤك من يودعك في المطار، بل الجنود المدججون بالسلاح. والتكنولوجيا لم تعد تحميك في التفتيش، بل أصبحت تخاف من أن تتجاوزها، لأن فائدتها للشر أيضاً لا حدود لها، ما دام لا حدود للفكر الشرير والأرواح الشريرة التي ترتدي أجساداً متشابهة مع الناس الطبيعيين.
لقد عدنا، على نحو ما، إلى عصور قطّاع الطرق. لم يكن المسافر يخاف أهل البرية، بل الطامعين في ما يحمل. أفلام الكاوبوي كانت مليئة بتلك المشاهد والقصص.
لم يكن خطر «الكاوبوي» عشوائياً أو عدمياً إلى هذه الدرجة. وكان خسيساً، لكن ليس خبيثاً، تآمرياً، خلواً من أي شعور. كان على الأقل يعطي ضحيته فرصة الشكوى أو الشفاعة. لكننا في عصر «م.ك» (ما بعد الكاوبوي). عصر بلا مقارنات ولا مشابهات، القاتل لا يعرف ضحاياه. والضحايا لا يعرفون كيف يخاطبونه. عصر «م.ع» (ما بعد العدم).