رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الأمة العربية بين الاستحقاقات والتحديات

قد يكون من المبالغة والتجاوز الحديث عن «الأمة العربية»، باعتبار الافتراق الحاصل على مستوى السلطات في المسائل الكبرى مثل سوريا وفلسطين والعراق والجزائر والسودان، بيد أن الأمر لا يعد تجاوزا إذا لاحظنا أو تحدثنا عن الرأي العام العربي، فالرأي العام ظاهر وموحد في القضايا الكبرى المتعلقة بأنظمة الحكم، والملفات البارزة مع الإقليم والعالم، والتوجهات المستقبلية. ومن دون انتقاص من أهمية أحد أو دوره فإن الأمر مختلف الآن أيضا عنه في زمن ما قبل الثورات؛ فالتوجهات واضحة لجهة النصب والاحتيال والاستنزاف الذي يمثله الطرف الآخر الإقليمي والدولي على الساحة العربية. وبعبارة أوضح، ما عاد هناك مشروعان يتنازعان على البناء في العالم العربي، بل هناك مشروع عربي واحد هو الذي تقوده دول الخليج بزعامة السعودية. أما «المشروع الآخر» إذا صحت تسميته بذلك والذي يسود بالعراق وسوريا وعبر حزب الله بلبنان، ومعه بعض الإسلاميين السنة تبعية واختراقا، وبعض القوميين (العرب!) القدامى عمالة وقلة وعي؛ فهو مشروع إيراني، وهو يجهر بالتقسيم وتحالف الأقليات، والعداء للعرب عبر العداء لدول الخليج. ثم إنه يتظاهر بإرادة التحرير والحكم المدني، ولا شواهد له على ذلك غير سلوك النظام السوري ونظام حزب الله والنظام الديني الإيراني! وقد انضم إليهما نظام المالكي، فتوافرت لهم الإمكانيات المادية والبشرية والتسليحية لمزيد من القتل والتقسيم. ولكي يزيدوا من تضييع قضايانا (بسبب كراهيتهم للعرب والسنة)، فقد مدوا الفتن والانقسامات إلى البحرين واليمن، إضافة لقتلهم للناس وتهجيرهم لهم في العراق وسوريا ولبنان. ومظلة هذا المحور على المستوى الدولي روسيا الاتحادية التي تتحدث براحة الآن تارة عن حماية الأرثوذكس، وطورا عن الغاز على السواحل السورية واللبنانية، وطورا ثالثا عن التحالف الاستراتيجي مع إيران، والتي من المفروض أنها دولة دينية، والروس يكرهون الدول الدينية أيام السوفيات واليوم!
لقد اعتقد فريق من العرب، وبينهم بعض الساسة المصريين أيام «الإخوان» واليوم، بل وبعض ساسة الخليج، أنه يمكن الوصول إلى «تسوية» من نوع ما مع الروس، ترعى مصالحهم حتى في سوريا، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق، كما اعتقد بعض العرب أنه يمكن الوصول لشيء مع إيران في عهد روحاني، بيد أن شيئا من ذلك لن يحصل. أما الفشل مع الروس فسببه أنهم يحصلون على «محور» يستظل بهم دون أن يخسروا أو يتكلفوا شيئا؛ فالإيرانيون والمالكيون هم الذين يدفعون، أما أيام الاتحاد السوفياتي، فإن الروس كانوا هم الذين يدفعون. وقضايا حماية الأقليات، ومصارعة الأصولية والإرهاب (الإسلامي السني) هي مسائل ذات شعبية اليوم في العالم، إلى حد أن نظام الأسد الطائفي الفظيع، والنظام الإيراني الطائفي القاتل بالداخل الإيراني وفي العالم العربي، يعرضان على الغرب صفقة يقاتلون هم بمقتضاها «التكفيريين السنة» بدعم غربي أميركي وروسي وبريطاني وألماني! ولذلك ما عادوا يقولون شيئا حتى على سبيل الدعاية عن الممانعة والمقاومة حتى لا يتذكر الغرب والإسرائيليون أنهم يمكن أن يشكلوا خطرا عليهم، وخصوصا أنهم لم يطلقوا رصاصة واحدة على إسرائيل منذ عام 2006. وهكذا، فنحن العرب مع هذا الفريق إنما نواجه جبهة تريد التجمد في زمن ما قبل الثورات، حيث كانوا يسيطرون تحت اسم الممانعة والمقاومة على ثلاث دول عربية وعلى غزة، وينشرون الرعب والقتل والتقسيم في عدة دول عربية أخرى. وقد أضيف إليهم الروس بعد الثورات. والأمر معهم ليس سهلا ليس بسبب إمكانياتهم المادية والعسكرية، ولا بسبب تظليل الروس لهم على المستويين الدولي والإقليمي؛ بل لأنهم يعتمدون على تنظيمات شيعية عربية مسلحة وغير مسلحة، نشروها في سائر أنحاء العالم العربي، بحسب قوة الدول وضعفها، ومصالح أنظمتها، وفيما بين لبنان والسودان!
أما لماذا لن يمكن الإفادة من العهد الإيراني الجديد، فلأن روحاني يواجه السطوة الداخلية للحرس الثوري، وهو لن يستطيع إلغاءهم لأنهم يملكون كل شيء. ولذلك - وبإشراف خامنئي - يقومون اليوم بمبادلة هم مضطرون إليها، وهي الخروج من الداخل الإيراني لإفساح المجال في تخفيف الضغط على الشعب، وإقدار روحاني على التفاوض مع الأميركيين بشأن النووي والحصار، لكنهم في مقابل ذلك سيبقون في الخارج العربي الذي انتشروا فيه خلال عقد وأكثر. فقد قال الجنرال سليماني، المسؤول عن الانتشار العسكري والأمني في الديار العربية قبل انتخابات الرئاسة، إنه صنع عشر إيرانات خارج الدولة الإيرانية، ولن يجرؤ أحد على تضييعها! وكان روحاني قد قال قبل انتخابه وبعد الانتخاب، إن العلاقات مع السعودية أولوية، لكنه ما حقق شيئا من وعوده، ولن يستطيع حتى لو أراد!
ولنصل إلى تركيا قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. اعتبرت تركيا نفسها شريكا في الثورات عندما كان الإسلاميون صاعدين. وهم لم يعودوا كذلك اليوم. ثم إنها في غمرة الحماس الأردوغاني للثوران الإسلامي هذا نسيت المتاعب التي يمكن لإيران والنظام السوري أن يثيراها لها في الملفات الكردية والعلوية الداخلية. وعندما بدأ ذلك يحصل بالفعل تراجعت تركيا وداخلها شبه انشلال وهي تحاول الآن أن تعود «للتنسيق» مع إيران. والأرجح بعد الانكشاف الواسع للسياسة الأميركية، أن يصبح موقف تركيا مشابها لموقفها على مشارف الغزو الأميركي للعراق، أي أنها على الحياد أو ليست مع أي طرف، ولا حديث لها الآن إلا عن آلامها مع اللاجئين السوريين الذين أنفقت عليهم ملياري دولار، كما قال رئيس الجمهورية التركية قبل أيام.
أما الولايات المتحدة (وبريطانيا وليس فرنسا) فهي تريد أن تبلغ بالدبلوماسية ما كانت تحاول بلوغه بالعسكر أيام بوش الابن. وينبغي أن لا ننسى أنه حتى في ذلك الزمان فإنما كان شركاؤها في الغزو والإفادة من الاحتلال والتقسيم كلا من إيران وإسرائيل. وإسرائيل لا تشعر بالتهديد إلا من النووي الإيراني، ولذلك فإن الولايات المتحدة ستخدمها دبلوماسيا لهذه الناحية. أما الآخرون، أو الفريق الإيراني ومظلته الروسية، فالولايات المتحدة بالطبع لا تعتبره حليفا، لكنها مصرة على التسوية معه، كما كانت مصرة منذ تقرير بيكر - هاملتون عام 2007. وقد كان المسلم به في كل هذه السياسات، أن العرب غائبون، ولا داعي للاهتمام بما يريدون أو لا يريدون. فحتى استيلاء «الإخوان» على السلطة في مصر أمكن تجاوز مخاطره المحتملة على أمن إسرائيل.
وقد جاء «قلق» الولايات المتحدة عام 2013 من الحضور العربي غير العادي، فقد حضروا من خلال الثورات، وحضروا من خلال «تدخلات» دول الخليج على الأرض وبالدبلوماسية، وقد تدخل الخليجيون في البحرين واليمن وسوريا ومصر، وفرضوا أوضاعا بدت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا مهمشتين، وأقبل العرب على التواصل مع الروس ومع الصين ومع فرنسا، وما استطاعوا كسب روسيا والصين، لكنهم كسبوا فرنسا، ثم أظهروا تذمرهم من صفقات الولايات المتحدة (وبريطانيا) مع الروس، واستعدادهم للصفقة السريعة مع إيران، وإعادتهم للاتصال على مستويات منخفضة مع النظام السوري، وتنبيهاتهم الودودة للمالكي، وهناك الآن ما يدل على أن الأميركيين مضطرون لاعتبار العرب - عبر الخليجيين - طرفا رئيسا في مفاوضات التسويات في سائر أنحاء المشرق العربي، وهم الآن - بعد زيارة كيري للمملكة - تحت المراقبة ما قبل «جنيف - 2» ولما بعدها حصلت أو لم تحصل، ومنطق الخليجيين أنه بعد اليأس من المساعدة الأميركية، فلا أقل من التزام الولايات المتحدة بعدم التسوية مع الآخرين على حساب العرب، كما حصل خلال أكثر من عقد: دعونا نفاوض أو نقاتل دفاعا عن أرضنا وسيادتنا، ولا تسارعوا إلى إشراك الآخرين في أرضنا وقرارنا!
الاستحقاقات كبيرة، والتحديات أكبر، لكن الحضور العربي تقدم في مواجهة التدخل الإيراني وتضييعات الولايات المتحدة والإسلام السياسي!