استجدت مؤشرات، لا بل معطيات، قبل وبعد اجتماع «آستانة» الأخير فهمت، وخصوصًا من قبل المعارضة، على أن روسيا باتت بصدد تحولٍ فعلي وجدي بالنسبة لأزمة سوريا، التي اقتربت من نهاية عامها السادس والتي بقيت تنتقل من مأزق سابق إلى مأزق جديد على مدى الفترة منذ نحو منتصف مارس (آذار) عام 2011 وحتى الآن، والدليل هو أنَّ حركة قواتها العسكرية على الأرض وتحديدًا في المناطق المتاخمة لدمشق وبالقرب من الطريق المؤدي إلى لبنان قد اتخذت وضعًا يدل على أنَّ المستهدف هو «حزب الله» اللبناني الذي يصر قادته على أنه لن يغادر المناطق التي يرابط فيها في هذا البلد إلا بعد ضمان بقاء بشار الأسد في موقعه كرئيس للدولة السورية.
ثم وإن ما يرجح احتمال أن روسيا باتت تعمل فعلاً على حلٍّ يخرجها من هذا المأزق الذي غدت تغرق فيه، تلك المعلومات المتداولة على نطاق ضيق التي تتحدث أنه سيكون لإسرائيل دور في هذا الحل قد يتحول إلى عمل عسكري إنْ استدعت مستجدات الأمور ذلك، ولعل ما يعزز هذا أن هناك معلومات تتحدث عن أن الإسرائيليين قد بادروا خلال الأيام الأخيرة إلى إعادة نشر قواتهم في هضبة الجولان المحتلة، وأن طلائع هذه قد تجاوزت الحدود الدولية وتركزت في بعض الأراضي السورية التي لم يشملها احتلال عام 1967.
وهكذا، فإن ما يعزز هذه المعلومات أيضاً أن لقاءً غير بعيد قد جمع نائب وزير الخارجية والمندوب الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط ميخائيل بغدانوف بقيادي فلسطيني، كان يعتبر أحد رموز الاتجاه اليساري المحسوب على موسكو عندما كان الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته وتألقه، وأنه أبلغه أن روسيا عندما تدخلت عسكرياً في سوريا كانت تعتقد أن تدخلها هذا لن يطول وأن قواتها ستعود بمجرد تحقيق المصالح الروسية التي جاءت من أجلها، وبالطبع فإن المقصود هنا هو إقامة قاعدة «حميميم» قرب اللاذقية وتعزيز قاعدتي طرطوس وبانياس، وهو تعزيز وضع بشار الأسد ليتمكن من التفاوض مع معارضيه من موقع القوة.
لقد نقل هذا المسؤول الفلسطيني عن «رفيقه» السابق، الذي كان قد تعرف عليه عن قرب في فترة المد اليساري في هذه المنطقة، قوله: الآن وجدنا أن روسيا قد باتت تغرق فعلاً في الأزمة السورية وبحيث أصبح البقاء مشكلة وأصبح الانسحاب والرحيل عنها مشكلة، بينما الظروف هي هذه الظروف المأساوية، مشكلة أكثر تعقيدًا من مشكلة البقاء... لقد كان الاعتقاد أن «إسقاط» حلب وانتزاعها سوف يرجح موازين القوى لمصلحة نظام بشار الأسد وتمكينه من التفاوض من موقع القوة، لكننا اكتشفنا أننا كنا مخطئين وأن الرئيس السوري قد تضاعف اعتماده علينا وأن انسحابنا «الكيفي» سيكون بمثابة نهايته ونهاية نظامه، وأن هذا البلد سيزداد غرقاً في الفوضى وأن الإرهاب بالنتيجة سيكون المسيطر وأن إيران ستصبح القوة الرئيسية في هذه الدولة العربية.
وأضاف بغدانوف: ربما أن حتى بعض أصدقائنا لم يدركوا أننا أردنا معركة حلب كبوابة للحل في سوريا وعلى أساس ألا يتفاوض بشار الأسد مع «أعدائه» ومعارضيه من موقع الضعف وإنما من موقع القوة، لكننا اكتشفنا أن حساباتنا كانت خاطئة وأن «الانتصار» الذي تحقق في هذه المدينة الرئيسية كان انتصاراً وهمياً وأن المعارضين قد ازدادوا قوة، بينما ازداد النظام السوري ضعفاً وازداد اعتماده على الروس والإيرانيين وباتت حالته كحالة الغريق الذي يتشبث بزبد البحر.
وقال بغدانوف لرفيقه القديم: إنه في ظل كل هذه المستجدات ولأن روسيا لم تعد قادرة؛ لا على البقاء في سوريا ولا على الانسحاب منها، فقد جاء مبعوثاً من قبل الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئيس السوري بسؤال واحد هو: لنفترض أن الحرب ستنتهي لمصلحة هذا النظام ورئيسه، فهل بالإمكان يا ترى الاستمرار بعدما أصبح هذا البلد مدمراً على هذا النحو وأصبحت تكلفة إعادة بنائه تتجاوز الـ400 مليار دولار... لا يتوفر منها دولار واحد؟!
لقد قلنا للأسد، والكلام لهذا المسؤول الروسي، إنكم لا تملكون من هذه المبالغ الطائلة أي شيء، وذلك في حين أن إيران بأوضاعها الحالية غير قادرة على مساعدتكم، وأن روسيا التي تتحمل الآن مسؤوليات كثيرة أخرى لها الأولوية، ومن بينها مشكلة أوكرانيا المتفاقمة غير قادرة على مساعدتكم أيضاً وكل هذا في حين أن المؤكد أن الولايات المتحدة لن تقدم لسوريا أي شيء والأسباب هنا معروفة... وهذا ينطبق على الدول الأوروبية كلها دون استثناء... ولا دولة واحدة. عند هذا الحد سأل بغدانوف بشار الأسد حسب رواية اليساري الفلسطيني القديم: إن هذه هي حقائق الأمور وبكل صدق وصراحة... فماذا أنت فاعل؟ وكان جواب الرئيس السوري بعد إطراقة طويلة وفقاً لهذا المسؤول الروسي: أعطوني مهلة لأتدارس الأمور وأرد عليكم!!
وهنا فإن الواضح، وهذا هو ما فهمه بالتأكيد بغدانوف، أن الأسد الذي لم يعد في يده من أمور سوريا شيئاً، أراد هذه المهلة التي طلبها من المبعوث الروسي لمراجعة إيران ولأخذ رأي الولي الفقيه علي خامنئي ومعه قادة الحرس الثوري المتنفذون، والمعروف هنا أن طهران ضد هذا «العرض» وأنها ترفض الانسحاب من هذا البلد العربي وأنها تنفذ مخططاً هدفه تغيير هذه المنطقة كلها طائفياً ومذهبياً، وهذا ما تحدث عنه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عندما قال: إن الإيرانيين يسعون لـ«تشييع» العراق وسوريا.
وهكذا فإنه لا بد من التساؤل: هل يا ترى أن روسيا ستضطر في النهاية إلى الانسحاب من سوريا وترك بشار الأسد يواجه مصيره بنفسه... وخصوصاً أن المنتظر أن أوضاع الإيرانيين ستزداد سوءاً في ضوء ما ينتظرهم من عقوبات جديدة وفي ضوء ازدياد الضغط عليهم، إن من قبل الولايات المتحدة وإن من قبل المجتمع الدولي، الذي لم يعد يحتمل نزواتهم ولم يعد قادراً على السكوت عما باتوا يفعلونه في هذه المنطقة؟
وإجابة عن هذا التساؤل، فأغلب الظن أن الروس سيبقون في سوريا إلى حين إنجاز حلٍّ «معقول»، هو الحل الذي انعقد من أجله اجتماع «جنيف 4» الأخير الذي تشير مجريات الأمور كلها إلى أن إيران ستبقى تضع العصي في دواليب هذا الاجتماع الذي لم يحقق حتى الآن أي إنجاز فعلي، والذي إنْ هو انتهى إلى مصير كمصير اجتماعات جنيف السابقة، فإن الأوضاع في سوريا ستزداد سوءاً، وإن خيار التقسيم سيصبح غير مستبعد، وإن الروس سيكتفون من الغنيمة بالإياب، وذلك لأنهم غير قادرين على أن يبقوا في هذا البلد الملتهب إلى ما لا نهاية.
8:37 دقيقه
TT
الروس يسألون الأسد: ماذا ستفعل؟ والجواب عند إيران!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة