سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حبه الوحيد وسيدته الوحيدة

راودني دائمًا الحلم بأن أكتب سيرة فيروز، ومن خلالها ملحمة الرحابنة. وفاتحتها بالأمر أول مرة في لندن، نحو 1984. قلت لها: حرام أن يكون مثل هذا الثلاثي من دون كاتب سيرة، أو أكثر بكثير. وبكل عقلية قروية بسيطة ونقيّة قالت: «هيدي مش بيكتبوها بعدما يروح الواحد من هالدني»؟
قلت في نفسي إن سيرتها من الغنى بحيث يمكن كتابتها من المراجع والمقابلات والانطباعات. لكنني واجهت حيرة كبرى: عن أي فيروز سوف أكتب؟ عن تلك الصورة المصنوعة في خيال وذاكرة الناس، أم عن نهاد حداد، الإنسانة الضعيفة والأم المعذبة؟ ما قيمة الأسطورة من دون حقائقها.
العثرة الكبرى في طريقي كانت أن أتحدث عن هيام أنسي الحاج بها. لم يحب امرأة سواها، ولا أحب حبًا كحبها حتى يومه الواعي الأخير. ما قيمة كتاب عن فيروز ليست فيه هذه المحنة الإنسانية الأدبية الكبرى، وأيضا، كيف أواجه غضب الناس والأصدقاء والعائلة وذكرى عاصي الرحباني، إن أنا سمحت لنفسي بتحريك الصورة في الإطار؟
كانت فكرة الكتاب تعنُّ وتلِّح، ثم تغيب. وفي السنوات الأخيرة بعدت فيروز بعيدًا في غربتها الصاعقة. وابتعدت طويلاً أسفاري. وجميع هواتفها ترنّ ولا تُجيب. وعوَّدتُ نفسي أن أكتفي من الأسطورة بما تنشره من روعة في قلوبنا ونحن نبحث عن فرح غامض وبقايا الماضي المسحور. وظل الحلم بالكتاب قائمًا ومغلقًا معًا. أو كما غنت «في عندي حنين، ما بعرف لمين».
الحلقات الثلاث التي نشرتها «الشرق الأوسط» عن ذكريات الشاعر شوقي أبي شقرا، بدت لي وكأنها تغنيها فيروز. لقد حرمتنا بعنادها الملائكي وطيبة قلبها العاطر أن نغني في جوقتها كما غنت هي لنا من وجودها الساحر. وقد استخدم شوقي أبي شقرا تلك الطاقة المرهفة عنده، والتي لا مثيل لرقتها ورفرفتها، كي يشير شعرًا ونثرًا وإيحاء شفافًا إلى ما لم يتحدث عنه أحد: تولّه أنسي الحاج الدرامي المجنون بشجرة القلب المعلقة.
يقول أبي شقرا: «وكان الحاج، يغالي في إعجابه وتستخفه فيروز بما عندها من امتدادية في الهالة، بل إنها تبث النشوة نحوها بحيث الكثيرون يقعون في هذه البئر العميقة من الجاذبية، وفي هذه الفجوة من الحرير، ويمكن القول ما أُحَيْلى هذا الفخ، وما أُحَيْلى أن يسقط فيه الإنسان، وأن تلفَّه خيوط الشبكة الجميلة».
ما هذا الأسلوب الفائق، في رواية ما لا يروى. وما أرهف شاعرية أبي شقرا ومشاعره. وبأي طريقة تحدث عن خصوماته وعن غسان تويني. وكيف أعاد تلك الأيام مثل مدوّن غريب مرَّ بساحة الشعر والقلم ولم يدرك أحد أنه يخبئ تحت إبطه رفًا من طير البجع.