بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

فلسطينية القدس... أولاً

عندما يجتمع الاثنان في واشنطن اليوم (الأربعاء) - كما هو مقرر، الأرجح أن يسمع بنيامين نتنياهو من دونالد ترمب ما لن يسر رئيس الحكومة الإسرائيلية، وما قد يصدم مجمل تيار أقصى اليمين بإسرائيل. تفسير ذلك سهل وممتنع في آن واحد. يتضح السهل من تذكّر حقيقة أن السياسة والجمود خصمان لا يلتقيان. أما الممتنع فمرده أن توقّع المقبل من خطى السياسي يكاد يقترب من مزاعم محترفي خداع «بلورة الكريستال»، بل أسوأ من ذلك، يمكن القول إن التكهن بالخطوة المقبلة للسياسي المحترف، والمتمكن، يشبه مغامرة المشي في حقل ألغام، بلا جهاز كشف حساس، أو المخاطرة بلعبة «روليت»، حيث يستحيل تحسس محل انفجار اللغم، أو موضع الطلقة الفارغة من القاتلة. هذا في حال أن السياسي صاحب تجربة بلغت من العمر بضعة عقود، فكيف إذا هو مثل ساكن البيت الأبيض الجديد، الذي بينه وبين خبرة العمل السياسي غرام مفقود، ونفور متبادل، ما يجعل التنبؤ بمضمون حركته المقبلة، أو هدف أحدث تغريداته، شبه مستحيل؟
مع ذلك، فإن ماتردد من أقوال صدرت الأسبوع الماضي عن الرئيس ترمب، بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية «ليس قرارًا سهلاً»، وأن توسيع الاستيطان يؤثر على عملية السلام، يوضح أن النظرة العملية لأركان إدارته، وهي نظرة تختلف عن المواقف المعلنة خلال الحملة الانتخابية، بدأت تفعل فعلها لجهة توجيه الرئيس في اتجاه وضع المصالح الأميركية في الاعتبار قبل مجاملة أي طرف، وهو أمر ينسجم تمامًا مع مبدأ ترمب نفسه: «أميركا أولاً». في هذا السياق، يمكن القول إن ما سبق لقاء واشنطن اليوم من إشارات يعزز احتمال وضع مسألة نقل السفارة على الرف، ولو مؤقتًا. يضاف إلى ذلك أن رئيس الحكومة الإسرائيلية قد يسمع كلامًا، في شأن مسألة الاستيطان، يوضح أن «حميمية» علاقة إسرائيل مع أميركا الرئيس ترمب لن تعني أن الباب مفتوح أمام تل أبيب كي تتصرف بلا مراعاة لمصالح أميركا مع حلفائها في المنطقة، بصرف النظر عن مدى توتر العلاقة الأميركية - الإسرائيلية طوال ولايتي إدارة باراك أوباما.
إنما، لأن الحسم في هكذا شأن غير ممكن، ليس هناك ما يحول دون افتراض أن الرئيس ترمب قرر فجأة المضيَّ في تنفيذ نقل سفارته إلى القدس الشرقية، فماذا سيكون رد الفعل؟ مظاهرات غضب، وإشعال النار في أعلام أميركا ودُمى رئيسها، ثم ماذا؟ لا شيء. وما نتيجة ذلك كله؟ لا شيء أيضًا. قبل أيام، جمعتني مناسبة اجتماعية مع شخصية مقدسية، وفي سياق الحديث قلت له: أين الخطأ في حال جرى نقل السفارة أن يمتنع الفلسطينيون عن تصرفات حرق الأعلام والدُمى، وأن يقفوا أمام القنصلية الأميركية يحملون لافتات مؤطرة بأغصان زيتون وتحمل عبارات مثل: نرحب بسفارة الولايات المتحدة في القدس الشرقية، العاصمة الفلسطينية المُحتلة؟ أجابني الرجل، وهو مقدسي ذو خبرة سنوات طويلة في العمل السياسي، أن الفكرة «تخيّل لطيف»، لكنه سارع قائلاً: أستبعد حدوث ذلك. خلال المناسبة ذاتها، سمعت من يقول إن قنصلية الولايات المتحدة في القدس الشرقية تقوم، فعليًا، بأغلب عمل السفارة، وإن الأمر ليس بحاجة إلى أكثر من تغيير اللافتة. إذ ذاك، خطر لي، أن الأخطر من إجراء نقل السفارة هو زحف استيطاني يستهدف ما تبقى من فلسطينية الأحياء القديمة في القدس الشرقية.
في مقال نشرته الاثنين الماضي «الغارديان» اللندنية، أشارت الكاتبة الصحافية البريطانية سارة هِلم (Sarah Helm) إلى ما يلي:
The senseless capture of Palestinian land is now too late to stop
ما يعني أن الوقت تأخر لوقف استيلاء المستوطنين على أراضي الفلسطينيين، وهي تنسب هذا التنبيه الخطير إلى السيد خليل تفكجي، الخبير المتخصص في علم الخرائط. لئن وصل الأمر هذا المستوى من الخطورة، أليس من الواجب، فلسطينياً، تقديم ما تبقى من فلسطينية القدس الشرقية، أولاً، على أي أمر يخص أية قضايا أخرى أقل خطراً؟ المنطق يقول: بلى. ويمكن القول أيضاً إن مما يثير في النفس الألم أن تنظر محاكم إسرائيلية في تخاصم أطراف فلسطينية بشأن ملكية عقار، خصوصاً إذا وُجِد احتمال، ولو أنه ضئيل، أن يتيح هكذا نزاع للمتربصين في معسكر المستوطنين فرصة اقتناص أي متر مربع يمكن شراؤه، ربما من وراء ستار، في حال عُرض العقار موضع الخلاف للبيع في مزاد علني. أليس الأولى هو تقديم أي إجراء يعزز الإبقاء على ما تبقى من فلسطينية القدس الشرقية المُحتلة، سواء من جانب السُلطة أو من قِبل الأفراد، من دون أن يلغي ذلك ضرورة التصدي سياسياً لإجراء نقل السفارة الأميركية، حتى لو أنه مجرد تغيير لافتة قنصلية بلافتة سفارة؟